المقالات

معركـة الكرامـة منـارة المسيرة الكفـاحية

معركـة الكرامـة منـارة المسيرة الكفـاحية

بقلم رفعت شناعة

29-03-2013

خاص مجلة القدس/ رغم مرور قرابة خمسة وأربعين عاماً على معركة الكرامة التي شكلت حالة مفصلية في مسيرة الثورة الفلسطينية، وفي واقع الامة العربية إلاَّ أنها ما زالت حتى الآن تحظى بالاهتمام والاعتزاز خاصة من أبناء حركة فتح، وما زالت مفاعيلها العسكرية والسياسية تحفر عميقاً في وعينا الوطني، وتشكل سلاحاً معنوياً في مختلف المراحل مهما كانت هذه المراحل مأزومة. ومن هذا المنطلق فإننا اليوم ونحن نعيش هذه الذكرى ندرك تماماً أن هذه الحركة الرائدة التي استطاعت في 21/3/1968 وبإمكانيات عسكرية متواضعة جداً أن تصدَّ عدواناً مؤللاً مدعوماً بالطائرات والتكنولوجيا وتكبده الخسائر الفادحة، مثل هذه الحركة تستحق الحياة والاستمرار، وهي تفرض على أبنائها في الداخل والشتات أن يحافظوا على هذا الإرث الوطني المميَّز، وان يصونوا مكتسباته، وأن يكونوا خيرَ خلف لخير سلف، وأن يحملوا الامانة بإصرار، وأن يُباهوا الأمم بهذا النصر المؤزر، وأن يجعلوا من معركة الكرامة عنواناً دائماً لهذه المسيرة الوطنية الكفاحية حتى يكون بالامكان تحقيق عملية الاستنهاض، والوقوف في المقدمة لتحُّمل مسؤولياتنا تجاه أجيالنا الصاعدة، وتجاه شعبنا الذي سجَّل عبر التاريخ أنه شعبٌ أصيلٌ، وله تطلُّعاته الاستراتيجية، ولديه قناعاتُه الثورية، بأنه عصيٌّ على الانكسار والهزيمة، وأنه الرقمُ الصعب الذي ينهضُ من تحت الركام أشدَّ عزيمةً واصراراً.

معركة الكرامة كانت بحق نقطة تحوُّل في مسيرة الثورة الفلسطينية، والنصرُ فيها كان هو ضمانة المستقبل، ولو حصل الانهيار-لا سمح الله- لوجدنا الانكفاء إلى الوراء والانتظار سنوات طويلة للخروج من النفق المظلم. وهذا ما أدركته قيادتنا التاريخية آنذاك وعلى رأسها الشهيد الرمز ياسر عرفات. كان طموح العدو الاسرائيلي سحق هذه النبتة الفلسطينية التي زُرعت في لحظة تاريخية والتي تم الاعداد لها عبرَ سنوات عديدة، وكان العدو يريد أن يضيف هزيمة جديدة للامة العربية بعد هزيمة حزيران حتى لا تتمكن هذه الأمة من النهوض، وأن تظلَّ تجترُّ نفسها في مستنقع الهزائم. لكنَّ قيادة حركة فتح قرأت جيداً الواقع السياسي والعسكري، ووضعت في حسابها الاحتمالات كافة، وبناء على ذلك أخذت قرارها بالمواجهة مهما كلّف الثمن، وهذا ما استدعى إتخاذ التدابير العسكرية الممكنة، والاحتياطات الضرورية، وعلى هذا الأساس قامت القيادة أولاً بتحصين بعض المواقع بما أمكن، وحفر الخنادق، وإحاطة بلدة الكرامة بعددٍ كبير من الألغام لتأخير تقدُّم قوات العدو وإرباكها.

وقامت ثانياً بتدريب عناصرها على حرب الشوارع والقتال بالسلاح الأبيض داخل طرقات قرية الكرامة، كما تم توزيع المجموعات الفدائية إلى مجموعات قتالية صغيرة العدد لتقليل عدد الإصابات، ومضاعفة الجهد، كما ركَّزت ثالثاً على نشر خلايا الإستطلاع والرصد داخل الاراضي المحتلة من جهة، وتكليف خلايا أخرى لمراقبة التحركات الأمامية للجيش الإسرائيلي.

الهجوم المعادي لم يضع في حساباته هذه الوقائع، ولذلك إِندفعت الآليات والدبابات والآلاف من جنود الاحتلال بنوع من الغطرسة، وفوجئ العدو الاسرائيلي وقيادة جيشه بحقائق لم تخطر على بال المحتل وأركانه. فأولاً برزت الجرأة النادرة لدى المقاتلين الفلسطينيين في المواجهة والتحدي سواء من حاملي القواذف في الخنادق الامامية، أو من العمليات الاستشهادية، أو من الاستعداد والمهارة في قتال الشوارع واستخدام السلاح الأبيض. ومن الشهداء ربحي أبو الشعر، وأبو شريف هوَّاش، والشهيد رؤوف، والشهيد الفسفوري، والشهيد بشير أبو تمام.

كما برزت حقيقة التكامل بين الفدائي الفلسطيني المنطلق بقوة من جحيم التشرد والنكبة والآلام باتجاه أرضه المحتلة لاستعادة حقوقه المسلوبة، وبين الجندي الاردني العربي الرابض على حدود بلده وعيناهُ ترنوان إلى الارض المباركة المستباحة من قبل شذاذ الآفاق، لحظة التكامل هذه تفتقدها الأمة العربية لكنها في معركة الكرامة تحققت لأنَّ الفدائي الفلسطيني الرافض بطبعه وتربيته للهزيمة هو الذي فرض هذه اللحظة باندفاعة ثوريةٍ نادرةٍ، وكان اللقاءُ الحميمُ بين الفدائي والجندي لأن الدمَ لا يصيرُ ماءً، وكانت الوقفة الشجاعة للجيش الأردني بتعليمات واضحة وجريئة من الفريق مشهور حديثة، تقدمت قوات العدو وما إن تجاوزت الجسورَ على البحر الميت باتجاه الاراضي الاردنية حتى كانت على مرمى المدفعية الاردنية من جهة، وتحت ضربات الفدائيين المنتشرين حول الكرامة وداخلها، وكانت الملحمة التاريخية في الكرامة، واستعادت الأمة كرامتها بعدهزيمةالعام 1967. لقد خسر العدوالاسرائيلي الكثير في هذه المعركة ، فهناك حوالي (1200) ما بين قتيل وجريح، وأربعماية آلة مدمرة، واسقاط (7) طائرات ، لكن الخسارة الاهم والاكبر والتي شكلت صدمة للقيادة الاسرائيلية هي رؤية الجيش العربي الاردني يساند المقاتلين الفلسطينيين وهذا ما لم يكن يتوقعه. أما الخسائر الفلسطينية والاردنية فهي: شهداء حركة فتح(74)، وشهداء قوات التحرير الشعبية (27)، وشهداء الجيش الاردني(74). (1)

إنّ معركة الكرامة جاءت تتويجاً لعددٍ كبير من العمليات أقضَّت مضاجع العدو الإسرائيلي فالعمليات العسكرية لم تتوقف منذ 1965، وفي معركة مستعمرة كفار يوفال في الجليل الأعلى تكبَّد الجيش الاسرائيلي خسائر فادحة، واستشهد في هذه المعركة الشهيدان موسى قاسم جمعة ومحمد يوسف حسن. وبعدها مباشرة قامت قيادة جيش العدو في 13/11/1966 بإدخال قوة عسكرية إلى الأراضي الاردنية، وقامت هذه القوة بمهاجمة قرية السموع جنوب مدينة الخليل التي كان يوجد فيها قواعد انطلاق للفدائيين، وقد تصدت كتيبة صلاح الدين الايوبي التابعة للواء حطين من الجيش الاردني لهذا الهجوم. كما أن حركة فتح نفَّذت منذ مطلع 1968 وحتى معركة الكرامة (68) عملية عسكرية أدت إلى مقتل (98) إسرائيلياً على الأقل، واستشهاد (20) من قوات العاصفة.(2)

لقد حمل الانتصار في معركة الكرامة إنجازات سياسية وتنظيمية ووطنية داخل الإطار الفلسطيني. فقد أعلنت مجموعة من الفصائل الفلسطينية الصغيرة والناشئة الانضمام إلى حركة فتح ومنها طلائع الفداء، وجبهة التحرير الوطني الفلسطيني، وجبهة ثوار فلسطين، وقوات الجهاد المقدس، والهيئة العامة لتحرير فلسطين.

كما أن هذا الانتصار أدى إلى حسم التمثيل الفلسطيني في المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان يرأسه المرحوم أحمد الشقيري، ويتحكم به المستقلون، وبعد الكرامة مباشرة في الدورة الخامسة للمجلس الوطني العام 1968 تسلَّم القائد الرمز ياسر عرفات رئاسة المجلس الوطني وحمل لقب القائد العام لقوات المقاومة الفلسطينية.

ولعلَّ أهمية هذه المعركة المفصلية التي فتحت أفاقاً جديدة في الكفاح الوطني ومقاومة الاحتلال، وتحقيق المزيد من العلاقات والانجازات السياسية هو ما دفع صحيفة اللوموند الفرنسية في 23/3/1968 لاعتبار معركة الكرامة قد حققت إنبعاثاً جديداً للشعب الفلسطيني. كما أنَّ هذا الانتصار البارز ساعد في حمل مجلس الامن باتخاذ القرار رقم (248) في 24/3/1968 أي بعد المعركة بثلاثة أيام، وقد نصَّت مجموعة بنود القرار على إدانة العمل العسكري الذي شنَّته إسرائيل، والذي يشكِّل خرقاً لميثاق الامم المتحدة ولقرارات وقف إطلاق النار.

من حقنا كفلسطينيين أن نضعَ هذه المعركة في مصاف المعارك التاريخية العربية والإسلامية نظراً لدورها في إحداث إنطلاقة جديدة للثورة الفلسطينية. وعلينا أن لا ننسى كشعب فلسطين بأننا قادرون على صناعة مستقبلنا إذا امتلكنا الثقة بأنفسنا ونحن كحركة فتح قادرون على النهوض والاستمرار إِذا ما استوعبنا دروس معركة الكرامة ونتائجها.

1) الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1968، ج5،- الموسوعة الفلسطينية.

2) معركة الكرامة، اللواء محمود الناطور، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان،ص54.

بقلم / رفعت شناعة

مقالات ذات صلة