المقالات

وضع عربي كئيب ومحزن وينذر بالانهيار

وضع عربي كئيب ومحزن وينذر بالانهيار

د. فايز رشيد

Oct 20, 2016

لتوي أنهيت زيارة قصيرة لكل من سوريا ولبنان، وفي آخر ليلة لي ولزوجتي في العاصمة اللبنانية، اجتمعنا على مائدة عشاء بدعوة من صحافية لبنانية صديقة مع نخبة من الكتّاب والصحافيين اللبنانيين من مختلف الاتجاهات الوطنية.

أحببت جادا التوجه بسؤال لهم، فحواه: أنه مهما كانت الاختلافات بين القوى ذات الاتجاهات المختلفة في بلد، فمن الضروري الاتفاق على الحد الأدنى من العوامل، التي تحافظ على استقرار الوطن، ومسيرته كدولة، خاصة أن لبنان يعاني منذ عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي، وأن حكومته الحالية تعاني شللا حقيقيا في ظل عدم الوصول إلى اتفاق.

د. فايز رشيد
د.فايز رشيد

استمعت حوالي ساعتين لأجوبة الحضور، لكن للأسف ظلّ الاختلاف قائما بين الحاضرين كما كان في بداية النقاش. هذا الوضع نموذج لما يجري حاليا في معظم الدول التي تعاني صراعات حقيقية فيها، كما في لبنان، وفي فلسطين ودول عربية أخرى أيضا، مع اختلاف العوامل والظروف الموضوعية لبلد عن آخر. بصراحة تمكنت الطائفية من أن تغرس خنجرها في النسيج الاجتماعي للشعوب العربية، ففي لبنان تستقبلك الطائفية بكل مظاهرها، إضافة إلى الإشكالات الحياتية التي يعيشها شعب هذا البلد العربي في مجالي الكهرباء والمياه. فبيروت العاصمة التي كان يُطلق عليها «باريس الشرق الأوسط» كما كل المناطق اللبنانية تعيش تزويدا للكهرباء من الدولة مدة 3 ساعات فقط غير متتالية. وبدون أي انتظام في مواعيدها، أما باقي ساعات اليوم، فيضطر المواطنون اللبنانيون، ومن أجل التزود بالكهرباء لبعضها إلى الاشتراك في شركات الكهرباء الخاصة مقابل اشتراكات مالية باهظة، لا يقدر عليها اللبنانيون الفقراء.

هذه الشركات الخاصة غير مسموحة الاستيراد والعمل فيها إلا لزعماء الطوائف، من خلال الأزلام والتابعين المأجورين لهم. المياه تخضع لقانون التوزيع نفسه ولكن بطريقة أكثر تقنينا. اللهم إلا إذا سكن الحارة زعيم طائفي أو نائب في البرلمان أو زعيم حزب سياسي أو ميليشيوي لإحدى الميليشيات المسلحة، فمنطقته والحالة هذه تتزود بالمياه والكهرباء على مدار الـ 24 ساعة يوميا، لذا يسأل كل مستأجر جديد لبيت عما إذا كان أحد النافذين يسكن المنطقة؟ من الجواب بالطبع يستطيع المستأجر تحديد مدى تزويد الحي بالمياه والكهرباء.

كل هذا يحدث في القرن الواحد والعشرين، وفي الوقت الذي استطاعت فيه كل الدول النامية وحتى الفقيرة منها، إيصال الكهرباء والمياه الدائمة إلى مواطنيها. دول عربية كثيرة وعلى الأخص منها خليجية كما إيران أيضا عرضت تمويل لبنان بمادة السولار الكافية لدوام تزويد كل مناطق لبنان بالكهرباء على مدار الـ24 ساعة يوميا ولعشر سنوات مقبلة، لكن زعماء الطوائف رفضوا كل العروض.. بالطبع من أجل مصالحهم المالية الخاصة. سبق لتركيا أن أرسلت للبنان باخرة لتزويده بالكهرباء، ظلّت الباخرة «فاطمة غول» في عرض البحر سنوات طويلة بدون تزويدها بالسولار من لبنان، مما اضطرها للعودة من حيث أتت.

للعلم، اشتراك الكهرباء الخاصة يخضع لعدد الأمبيرات التي يستطيع المواطن المغلوب على أمره شراءها من هذه الشركات الخاصة، فكلما زاد عددها تزداد دولارات الاشتراك. الصيف في بيروت لاهب في العادة، يزداد الشعور به إحساسا بالطبع بسبب الرطوبة العالية في الجو (كما كل مناطق البحر) التي تصل إلى درجة 95%، بالتالي يشعر المواطن بالحرارة وسخونة الجو وضيق في التنفس إن لم يكن المكان مُكيفا ومُبرّدا. الغريب أن معظم شركات الكهرباء مثلما قلنا مملوكة من زعماء الطوائف ومسؤولي الأحزاب والميليشيات، هؤلاء الذين يسكن الواحد منهم على مساحة تكفي لإسكان حيّ باكمله من حيث تواجد عدة قصور له في المكان ذاته (فقصر واحد لا يكفيه) وكلها محاطة بأسوار عالية ومحروسة بنقاط عسكرية تحيط بكل زواياها. أما حركة السيارات بجانب الأسوار العالية فممنوعة. إذ يجري قطع شوارع بأكملها. المال السياسي لزعماء الطوائف يتحرك لشراء الفقراء وأصواتهم أمام كل انتخابات تشريعية، فيشتعل بازار الانتخابات وسعر الصوت، إذ يبلغ يومها وفي الساعات الأخيرة 500 دولار.

للعلم رابين صاحب انتصارات الكيان الصهيوني كان يسكن في شقة بسيطة في عمارة عادية، وعلى الطابق الثالث والعشرين في تل أبيب. أما زعيم ميليشيوي طائفي فلديه قصور قد تقاوم هجوما بالقنايل الهيدروجينية وليس الذرية العادية فقط. كل هذا في ظل الصراع الطائفي والمذهبي البغيض الذي ينخر الدولة بديمومة نظام تقسيم المناصب الطائفية فيها، كما مجلس النواب بتقسيم عدد النواب لكل طائفة ومذهب، وينخر الجسد الشعبي اللبناني ونسيجه الاجتماعي، ويؤثر سلبا وعضويا على وحدته.

الصراع الطائفي والمذهبي والإثني، بدأ ينخر لا لبنان فحسب بل كل الجسد الشعبي العربي وأصبح يتمثل في: صراعات تناحرية على حساب صراعات أخرى، من المفترض أن تكون هي الأساسية، التناحرية، التناقضية الرئيسية: كالصراع مع العدو الصهيوني. وأيضا على حساب صراعات أخرى: كالصراع مع استهدافات عموم المنطقة لإفراغها من محتواها التاريخي وسماتها الرئيسية المرتبطة بالتاريخ والحضارة العربية، كالاستهداف الطامح إلى تحويل المنطقة إلى شرق أوسط جديد أو كبير تكون إسرائيل فيه: ليس القوة الرئيسية فحسب وإنما المكوّن الأساسي من مكوناتها التاريخية والحضارية، المهيمنة على المنطقة ليس سياسيا فحسب وانما اقتصادي وتقرير الأحداث الجارية فيها. مثل أيضا على الصراعات المفترضة: الصراع ضد الاستهداف الطامح إلى تفتيت الدولة القطرية العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وإثنية، متنازعة فيما بينها ومتحاربة مستقبلا.

العلة والأسباب والخلل لا تكمن في النظام الرسمي العربي، ولا في الجامعة العربية التي هي ممثل يعكس التناقضات والأحوال العربية، فقط، وانما أيضا في الاستجابة الجماهيرية لأن تتمظهر فيها التناقضات المذهبية والطائفية والاثنية، فتراها منغمسة في هذه الصراعات بدون أن تتساءل: لا عن أسبابها ولا عن استهدافاتها ولا عما ستؤول إليه، وإلى ماذا ستؤدي بالشعوب وبالطروحات والأهداف الجماهيرية التي كانت على لسان الفرد العربي حتى عقود قليلة ماضية: كالوحدة العربية، والتكامل العربي، ووحدة المعاناة والمصير المشترك. الصراعات الطائفية والمذهبية المتصاعدة في الوطن العربي وفي لبنان تحديدا: ستؤدي إلى ظواهر سلبية كثيرة: ذكرنا بعضا منها وسنذكر واحدة من أبرزها وأخطرها: تؤدي إلى عمى الألوان في رؤية الحدث. يشبه ابن خلدون في (مقدمته) الدولة التي تريد أن تنبعث بعد ان فقدت أسباب قوتها بـ (الذبال المشتعل) إذ إنه وعند مقاربة انطفائه يومض قليلا.. بحيث يجري الوهم أنه اشتعل، لكنه في حقيقته انطفأ. نتمنى للبنان العربي ألا تطفئ نار اشتعاله لا الطوائف ولا المال السياسي.. نتمنى للبنان العروبي الانتصار على هذا المال المكرّس لزعماء طوائفه وأهدافهم المصلحية الخالصة.

نعم، لبنان أصبح نموذجا للوطن العربي. هذا الوطن الذي كان جميلا، الوطن المليء بالثروات والخيرات، التي لو تحقق التكامل بين البلدان العربية، لعمت كافة أنحاء الوطن العربي، ولما بقي مواطن عربي واحد، مُفترس للجوع. أصبح العالم العربي أرضا للتناقضات السياسية، وساحة لاستثمار الآخرين ولكل مخططاتهم لتفتيت المنطقة وتقسيم دولها. أصبحت الأرض العربية ساحة لتصفية الصراع بين الدول العظمى. أصبح الوطن العربي مصدرا وعاملا مساعدا لتهجير أبنائه، لتتحكم الدول الغربية في مصائرهم. أخبرني أصدقاء كثيرون في دمشق عن هجرة الكفاءات من سوريا، خاصة على صعيد الأطباء، وقد هاجر منهم عشرات الآلاف. ونحن لو اجتمعنا في حدود عشرة أشخاص لنتفق على قاسم مشترك واحد، لتعددت الآراء بيننا، ولربما رفعنا السكاكين بعضنا على بعض. إن من يدعو إلى التكامل العربي (وليس الوحدة العربية) يبدو وكأنه الحالم بالأوهام، والآتي من المريخ. أسأل: كيف يستطيعون في الكيان الصهيوني الاتفاق على كل القواسم المشتركة الضرورية لخدمة إسرائيل؟ كيف تستطيع دول المنطقة الواحدة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وحتى في آسيا الوصول إلى تشكيل جمعية سياسية واقتصادية بما يخدم كل دولها؟ لماذا لا نستطيع كأمة واحدة ذات مشتركات كثيرة ومن ذات الأصل أن لا نتفق إلا على عدم الاتفاق؟

كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة