المقالات

دبلوماسية على خطوط النار!

دبلوماسية على خطوط النار!

عريب الرنتاوي

بالمعنى الاستراتيجي الأبعد والأشمل، للأردن جملة مصالح يتعين مراعاتها فيما تنزلق سوريا في حرب أهلية – طائفية مفتوحة: أولها وحدة الدولة والمجتمع والتراب الوطني السوري، بخلاف ذلك لن يكون الأردن في منأى عن تداعيات الأزمة السورية وتأثيرات “مبدأ الدومينو” الذي سيفعل فعله بصورة غير مسبوقة.

وثانيها، منع تحوّل سوريا إلى “حديقة خلفية” لأي طرف من الأطراف المنخرطة في لعبة المحاور الإقليمية – الدولية وصراعاتها، ذلك سيلقي بعبء ثقيل على حسابات الدبلوماسية الأردنية، ويفقدها كثيراً من هوامش حرية الحركة والمناورة..وثالثها: الحيلولة دون تحول سوريا من “الدكتاتورية” إلى “الشمولية” تحت أي مسمى أو ذريعة، باعتبار أن ذلك سيشكل توطئة لـ”تعميم” الشمولية على نحو لن تنجو منه دول ومجتمعات عربية مجاورة..ورابعها، منع أية محاولة لتصفية القضية الفلسطينية تحت ستار كثيف من دخان المعارك والمواجهات في سوريا وعليها، والتصفية هنا، تعني بإيجاز أي حل سياسي/تفاوضي، لا يمكّن الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم في العودة إلى وطنهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.

أما بالمعنى التكتيكي، فإن للأردن جملة مصالح وأهداف على المدى المباشر، لا يجوز التهاون أو التساهل في الذود عنها والعمل على إنفاذها، أولها: الحيلولة دون إغراق البلاد بموجات واسعة إضافية من اللاجئين، تحمل معها كل عناصر التهديد الأمني والاقتصادي والاجتماعي، وبما يفوق طاقة الدولة والمجتمع على التحمل والاحتمال.

والثاني: منع تحول جنوب سوريا بشكل خاص، إلى ملاذ آمن للقاعدة و”مشتقاتها”، ولنا في تجربة غرب العراق في الفترة من 2004 – 2008 دروساً وعبر، سواء في التهديدات أو في كيفية جبهها على حد سواء..والثالث، منع سقوط أسلحة دمار باليستية أو كيماوية نوعية في “الأيدي الخطأ”، ولنا في تجربة “محاولة تنفيذ هجوم إرهابي كيماوي” على أهداف أردنية، “سابقة” يمكن الانطلاق منها، لاستشراف أكثر السيناريوهات سوءاً و”كارثية”.

وفي الأهداف بعيدة المدى والاستراتيجية، لا يستطيع الأردن أن يفعل الكثير منفرداً..فهو هنا لاعب من بين لاعبين، وليس أكثرهم نفوذاً وتأثيراً بالطبع..على أن التمسك بمبادئ حل سياسي توافقي، يكفل حفظ وحدة سوريا ووقف شلال الدم النازف، ويمنع انزلاقها إلى حرب أهلية – طائفية مفتوحة، ويبقي للدولة السورية وجودها المؤسسي (أمنيا وعسكرياً ومدنياً)، يجب أن يظل بوصلة السياسة الخارجية وهاديها، مهما اشتدت الضغوط وعظمت التحديات، ومهما بلغ مستوى الإغراء والإكراه الهادفين دفع الأردن للتورط أكثر في “المستنقع السوري”..ليس للأردن مصلحة في التساوق مع أهداف محور المتطرفين الممتد من الخليج إلى الأناضول، وبرعاية من أكثر عاصمة دولية.

لكن ذلك لا ينبغي أن يمنع الأردن بحال من الأحوال من العمل للدفاع عن مصالحه المباشرة التي تبدو عرضة للتهديد والتبديد..مشكلة اللجوء السوري الكثيف، يجب أن تعالج في “إطار دول جوار سوريا”، وبالأخص مع لبنان الذي يعاني تهديدات وضغوطا مماثلة، ومن على قاعدة السعي لإقامة مناطق آمنة توافقية”، أي بموافقة النظام والمعارضة ورعاتهما الإقليميين والدوليين، وليس بفرضها بقرارات مجلس الأمن وقوة النيران الأطلسية.

أما مشكلة النفوذ المتزايد للنصرة والقاعدة، فلنا في تجربة الصحوات العشائرية في الأنبار، نموذجاً لما يمكن القيام به، حتى وإن تبدلت الأدوات والوسائط والشركاء، كأن تحل بعض فصائل المعارضة غير المتطرفة، محل الصحوات في الشراكة من أجل إبعاد خطر “الإرهاب” عن مدننا وقرانا وبلداتنا..ولا يجوز أمام تفاقم هذا الخطر، استمرار الحديث بلغة خشبية من نوع: “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، سيما مع تراجع سيطرة الدولة في هذه المناطق وتحولها إلى مسرح للسلاح والمسلحين من كل لون وجنس، ليس للأردن من خيار سوى “ملء الفراغ” في هذه المناطق، وبعناصر لا تشكل تهديداً لأمنه الوطني واستقراره.

تبقى القضية الأكثر تعقيداً وخطورة وصعوبة، وهي قضية تأمين الأسلحة النوعية من صاروخية وكيميائية سورية، وضمان عدم انتقالها لـ”الأيدي الخطأ” التي قد تستخدمها ضد إسرائيل ولكن من المؤكد أنها ستسخدمها ضد الأردن كذلك، أقله بناء على تجارب سابقة في عمان والعقبة..مثل هذا الأمر يملي سلسلة من الخطوات الوقائية وأحياناً الاستباقية، على أنها يجب أن تظل محكومة بحسابات الأمن الوطني، وليس بأية حسابات أخرى، مهما بلغ الضغط الأمريكي، ومهما تعاظمت “وقاحة” المطالب الإسرائيلية.

وهو وضع معقد بلا شك، تتداخل في الحسابات والمصالح، الضغوط والإغراءات، لكن ما يشفع لصانع السياسة والقرار في الأردن، أن الأمر لطالما كان على هذا النحو، وتاريخ الدبلوماسية الأردنية هو على أية حال، تاريخ السير بين خطوط النار الحمراء المتقاطعة، التي غالباً ما تتحول إلى حقول ألغام..فهل نخرج من المحنة هذه المرة بأقل قدر من الخسائر، أم أننا سنجد أنفسنا وقد بلغنا ضفافاً لا نريد الوصول إليها، وانخرطنا في لعبة لم نُستشر عند رسم قواعدها ووضع أحكامها.

القدس، القدس، 26/4/2013

مقالات ذات صلة