المقالات

التاريخ المتوحش والتاريخ اللين

جميعنا يعرف أن التاريخ يكتبه الأقوياء .ولكل مؤرخ من يُملي عليه من السلاطين والملوك والأباطرة من سياسات ومفاهيم وأيديولوجيات . من هنا لم تكن لحظات توحُّش التاريخ هي نفسها في مسيراتهم ورواياتهم جميعاً دون استثناء . ما نعيشه من توحُّش في بلادنا العربية يؤكِّد أنَّ القسوة الآن في أقصى تجلياتها العنيفة، وثمة تنكيل متوحش متبادل بين الجلّادين وضحاياهم، وكأنَّ هذا التوحش تحوَّل إلى ثقافةِ راسخة لشعبنا العربي في فلسطين والعراق واليمن وليبيا .. إلخ .

إنَّ ما رآه إدوارد جيبون (Edward Gibbon) (1737-1794) المؤرخ الإنكليزي صاحب كتاب (اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها) والذي يُعّدُّ من أهم وأعظم المراجع في موضوعه. كتب كتابَه في ستَّةِ أجزاء بدءاً من عام 1776حتى عام 1788 م. ومن خلال كتابه هذا أثار جيبون الجدل حول مسألة فلسفية ولا تزال صداها ومفاعيلها حتى اليوم .ليس كالذي رآه أرنولد توينبي أو ويل ديورانت . أما بالنسبة إلى مؤرخينا نحن العرب، فثمة فوارق لا في الأساليب والمنهج فقط، بل في الرؤى أيضاً، فابن الأثير الجزري،المؤرخ العربي الكبير الذي عاصر دولة صلاح الدين الأيوبي، ورصد أحداثها يُعّدُّ كتابه:( الكامل في التاريخ ) مرجعاً لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي.

فقد رأى ذروة توحش التاريخ في غزو المغول للعراق عام 1258 ميلادية عندما بنوا أبراجاً من جماجم شعبنا العراقي المظلوم، لهذا تمنى ابن الأثير لو أنَّ أمَّه لم تلده كي لا يرى ما رأى من توحُّشٍ وعنفٍ وقسوة ، أما ابن إياس الحنفي ويكنى بـ ( أبو البركات) وهو مؤرخ مصري وُلِدَ في القاهرة سنة 1448م وتوفي بها سنة 1523م ويُعَدُّ من أشهرِ وأهمِّ المؤرخين الذين أرّخوا للعصر المملوكي ولاسيما في الفترة الأخيرة منه. مؤلف كتاب ( بدائع الزهور في وقائع الدهور ) وهو مؤلف من 5 أجزاء في 6 مجلدات) يُعدُّ من أهم مؤلفاتهُ فقد أرّخ فيه لتاريخ مصر الضخم منذ بداية التاريخ وحتى سنة 1522م.

فقد رأى ذروة توحُّش وعنف التاريخ في ذلك التحالف الشيطاني بين الأمراض السارية والمعدية مثل الكوليرا ، والحمى بأنواعها وكذلك الفقر والظلم في أيامه، ويروي أنَّهُ رأى جياعاً يأكلونَ بغلةَ القاضي،. ولو شئنا الاستطراد في كل ما قاله ابن إياس لبدت لنا المشاهد الفظيعة التي يصفها وكأنها من الجحيم . وهناك مؤرخون منهم غربيون رأوا ذروة توحش التاريخ وعنفه في حروب الفرنجة (الحروب الصليبية ) التي بدأت من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291)،عبر حملاتها المتعاقبة على القدس .

بينما رأى آخرون أنّ هذا التوحّش بلغ أوجه في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي راح ضحيتها نحو 160 مليون شخص .لكن للفنانين والمبدعين من رسامين وشعراء وروائيين مقتربات أخرى، فذروة هذا التوحش وهذا العنف بالنسبة إلى فنان مثل بابلو بيكاسو هو ما حدث في قرية غورنيكا التي خلَّد فيها حزنٌ وقهر وتراجيديا الحرب الأهلية الإسبانية .غير متناسين حجم التوحش والغنف المتمثل باحتلال بلادنا فلسطين عام 1948 وعام 1967 وما تلاهما .

ونحن نرى أنَّ العقدين الماضيين شهدا عنفاً وتوحّشاً لا مثيلَ لهُ في منطقتنا العربية . نتيجة الحراكات الشعبية وحرب الأخوة الأعداء ، لأنَّ القسوة وصلت إلى أقصى تجلّياَتها عنفاً. فقد تجلى التنكيل بأبشع صوره بين الجلَّاد والضحية ، وكأنَّ هذا التوحُّش صار ثقافةً سائدة في العالم .

وإذا كان هناك من يرفع الظلم عن الآخرين ويقف في مواجهة التوحش في التاريخ ، فهي لحظات من التسامح الذي عرفه أجدادنا العرب في موروثنا الأخلاقي والديني ،تحت شعار ( العفو عند المقدرة ).

بقلم ” عماد خالد رحمة .

مقالات ذات صلة