المقالات

خفايا التهدئة

خفايا التهدئة

رائف حسين-المانيا

من الطبيعي أن تكون دبلوماسية التهدئة هي الخطوة اللاحقة والصحيحة لكل صراع مسلح بين طرفين لإيجاد حل يرضي طرفي الصراع وينهي معاناة المواطنين والدمار والأذى الذي يلحق بالكل.

السؤال الآن ليس إن كانت دبلوماسية التهدئة مهمة ومفيدة أم لا؟ فهذا كما ذكرت أمر طبيعي وبديهي ويجب أن يكون، بل السؤال الأهم هنا هو عن توقيت بداية الدبلوماسية وعن الأطراف المشاركة ومصالح كل طرف من التهدئة أو عدمها.

في الحالة التي نحن بصددها الآن – العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة – كان ملفتاً للنظر وجلياً التفاهم الاسرائلي الغربي والامريكي مع أطراف عربية وفلسطينية محددة للإسراع بالوصول الى التهدئة.

من هو المستفيد ومن هو الخاسر من التهدئة الآن:

الهدف الرسمي المعلن من قبل إسرائيل للعدوان على غزة هو الحسم العسكري الكامل بالقضاء على قدرة المقاومة الفلسطينية في إطلاق الصواريخ على إسرائيل وقطع طرق الإمداد من الخارج وكذلك تدمير البنية التحتية لحماس في القطاع. هذه الأهداف الثلاثة رسمها نتنياهو في الساعات الأولى لبدء القصف على غزة. هذه الأهداف لم تتحقق بعد وتحقيقها، ضمن الظروف الراهنة والبينات التي اتضحت للجانب الاسرائيلي، أصبح شبه مستحيل ومع ذلك ضغطت إسرائيل على حلفائها من غربيين وعرب بأن يسرعوا في الوصول الى تهدئة. هذا التصرف المتنقاض له أسبابة وتبعاته أيضا التي يجب علينا أن نتمحص بها لتوضيح الصورة كاملة لنا جميعا.

إن الحكومة الاسرائيلية تتخبط منذ اليوم الأول للعدوان بين شعارات رنانة لتهدئة الشعب المذهول من ضربات المقاومة الفلسطينية ومحاولات المزايدة بالتطرف على البعض داخل الائتلاف الحكومي وبين محاولة ضبط إستراتيجية عسكرية واضحة المعالم ومُدعمة بموقف وبرنامج سياسيين لما بعد العملية العسكرية. من الواضح أن إسرائيل حكومة وجيشاً وأجهزة مخابرات فوجئت بالقدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وأصبحت بحيرةٍ من أمرها ممّا ينتظرها داخل غزة إن هي أَقحمت على هجوم بري!

أمام الحكومة الاسرائلية حلاّن لا ثالث لهما في ضوء تخبطها وفقدانها للبوصلة السياسية، إما أن تصدر الأوامر للجيش لإقتحام غزة والدخول في معركة غوريلا لا مجال للتحكم بمسارها خلافاً للضربات الجوية والمدفعية. وهي على يقين تام أن هذه المرة لن يكون الدخول الى غزة كالحال في الحرب السابقة إذ كما هو واضح، فالمقاومة تعلمت من تجربتها الماضية وطورت من أسلوبها الكفاحي والقتالي مما يجعل المعادلة للإسرائيلي غامضة جداً. وفي هذه الحالة ستوجه المقاومة ضربات موجعة للجيش الإسرائيلي والتي ستلقي بظلها على المعنويات الاسرائيلية والوضع الداخلي في المجتمع الإسرائيلي الذي لا يحتمل “هزيمة أخرى” كتلك التي حصلت أمام حزب الله، وبعد الهزيمة سوف يتم تحميل نتانياهو المسؤولية عن الفشل لتعاطيه البطئ مع الحدث وهو سيكون الخاسر الوحيد في هذه الحالة والمستفيد الأكبر سيكون اليمين المتطرف والفاشي من داخل وخارج الائتلاف الحكومي. هنا نأخذ بعين الاعتبار أن ما يُدعى باليسار الصهيوني من حزب العمل ومن يقف على يساره لا يملكون برنامجاً سياسياً واضحاً لا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولا أيضاً للحالة الإسرائيلية الداخلية وهم سيكونون أيضا من الخاسرين. هذا الحل المحتمل الأول ونتائجة المتوخاة ليس من صالح الغرب الداعم لإسرائيل ولا من صالح العرب الذين تصالحوا مع الدولة الصهيونية وأيضا ليس من صالح الطرف الفلسطيني الرسمي الذي راهن فقط على المفاوضات دون غيرها مع الإحتلال. أية خسارة، حتى لو كانت رمزية ومعنوية، ميدانية للجيش الاسرائيلي سوف تعني إنهيار حكومة نتانياهو، وبوادر التفكك قد بدأت تظهر للعيان، تليها إنتخابات مبكرة تخرج عنها على الأرجح حكومة فاشية يمينية واضحة المعالم والسياسة تجاه العالم العربي وهذا ليس ما يتمناه الغرب الآن، كما وسيؤدي دون شك الى تعرية العرب والفلسطينيين الذين راهنوا على النوايا الاسرائيلية لحل الصراع.

الحل الثاني المطروح كان وما زال هو الحفاظ على ماء الوجة لنتانياهو ومن يدعم سياسته العدوانية الإحتلالية في الغرب ويسكت عن أعماله في فلسطين المحتلة من عرب وفلسطينيين في الشرق. الحل الثاني يتم رسم السيناريو له عبر إتفاق هدنة مع حماس دون غيرها من فصائل المقاومة. نتيجة هذه الهدنة التي تلعب مصر وأوروبا الدور الأساسي للتوصل لها تكون بإظهار جميع الأطراف المتورطة بالمعركة علي أنها الرابح (win – win situation). الهدنة تعطي نتانياهو الفرصة الذهبية للخروج من مأزقه بأقل الخسائر، إذ بإستطاعته حينها أن يقول لأطراف الحكومة ولشعبه إن الغرب ضغط عليه لقبول الهدنة لكي لا تحصل إساءة أكبر للرئيس عباس لدى الرأي العام الفلسطيني، وهو طبعاً أفضل الخيارات لإسرائيل ومشروعها الكولونيالي في فلسطين، وإستفادة “القوى المتطرفة” في الشارع الفلسطيني من الحدث مما يشكل خطراً مستقبلياً على إسرائيل والعملية السلمية. من ناحية أخرى بالوصول الى هدنة يتدارك الإسرائيليون تراكم الدعم العالمي للقضية الفلسطينية ويوقفوا أيضا إنزلاق سمعة إسرائيل على المستوى الدولي وهذا ما نتابعه في مظاهرات الدعم لشعب فلسطين في أنحاء المعمورة.

بالوصول الى هدنة تحصل حماس على الإهتمام العالمي والعربي والفلسطيني الذي خسرته بعد مغامراتها بالسياسة الخارجية في السنتين الماضيتين وتبرز مرة أخرى كمنافس لمنظمة التحرير وتقوي مركزها داخل المجتمع الفلسطيني وتبدأ بالعودة الى ذروة شهرتها. ومقابل قبولها بالوساطة المصرية ممكن أن تبتز من المصريين بعض التخفيفات على الحدود المصرية الفلسطينية خصوصاً في معبر رفح مما يساعد على تهدئة نوعية في الشارع الغزاوي، وبهذا يحقق نتانياهو هدفاً غير مباشر بزرع بذور إنشقاقية وعبوات ناسفة في طريق الوحدة الوطنية الحقيقية لمواجهة الإحتلال.

أهم ما في الأمر أن إتفاقية تهدئة الآن تعني إقفال إحتمال إنطلاقة إنتفاضة ثالثة في فلسطين المحتلة مدعومة بهيجان شعبي داخل الأراضي المحتلة عام ٤٨. إنتفاضة ثالثة تعني بما تعنيه أنها الخشبة الأخيرة في نعش ما سمي زيفاً المفاوضات السرية ونهاية أكيدة للسلطة الفلسطينية وعودة الوضع الى حالته الطبيعية بعد أن زيفه الموقف الفلسطيني الفاشل بالتمسك فقط بالمفاوضات العبثية دون دعمها بعناصر القوة الفلسطينية ومنها الوحدة الوطنية الحقيقية وليس المحاصصة وتركيز الدعم للنضال الشعبي المُحرج للإحتلال. إنتفاضة في الضفة وكفاح مسلح بغزة يعني إسقاط ورقة التوت الفلسطينية التي غطت عورة الإحتلال في العقدين الاخيرين وفضح حقيقة الوضع في فلسطين المحتلة وإفلاس السلطة سياسياً. وهذا كله بالتالي يعني فشلاً ذريعاً للغرب الذي راهن على كل هذه السياسات الفاشلة المتناسية لحق تقرير المصير الفلسطيني.

مقالات ذات صلة