المقالات

الدّروس الفلسطينيّة من التجربة المصريّة

الدّروس الفلسطينيّة من التجربة المصريّة

هاني المصري

بغض النظر عن تسمية ما جرى في مصر انقلابًا عسكريًّا أطاح برئيس منتخب، أم تدخلًا عسكريًّا جاء استجابةً للإرادة الشعبيّة، وأدى إليه الفشل المتراكم للرئيس المعزول محمد مرسي، فإن الحكم لصالح الموجة الثانية للثورة المصريّة أو عليها يتوقف على قدرتها على إنقاذ مصر بإقامة نظام تعددي ديمقراطي بمشاركة الجميع ومن دون إقصاء الاتجاه الإسلاميّ، وإنقاذها من الفوضى والحرب الأهليّة التي كانت تسير إليها قبل 30 حزيران، وجاءت الموجة الثانية للثورة “خشبة خلاص”.

على الرئيس مرسي أن يفكر مرارًا وتكرارًا لماذا أخطأ كل هذه الأخطاء خلال عام واحد حتى يخرج 15 مليون متظاهر وفقًا لـ (Google) و33 مليون وفقًا لـ (CNN) إلى الشوارع مطالبين برحيله رغم أنه رئيس منتخب حصل على 13 مليون صوت في انتخابات اعترف بشرعيتها معظم الأطراف المحليّة والعربيّة والدوليّة.

ما يهمنا في هذا المقال هو استخلاص الدروس الفلسطينيّة من التجربة المصريّة، خصوصًا في ضوء استنساخ التجربة المصريّة بتشكيل “حركة تمرد” فلسطينيّة، والدعوة إلى تنظيم مظاهرات ضد سلطة “حماس” في غزة حتى يتم إسقاطها.

لقد وصل الأمر بأحد الناطقين باسم “فتح” إلى حد تحميل تدخل “حماس” في الأوضاع الداخليّة المصريّة مسؤوليّة إغلاق معبر رفح، بالرغم من أن الفلسطينيين، بما فيهم السلطة التي طالبت مصر بعدم تحميل أهل قطاع غزة المسؤوليّة عما يُدّعى أنّ “حماس” قامت به نصرة لتنظيمها الأم جماعة الإخوان المسلمين، فلا يجب أن تعاقب غزة بحجة أخطاء سواء ارتكبتها أو لم ترتكبها “حماس”.

لا يمكن استنساخ التجربة المصريّة فلسطينيًا لأن مصر غير فلسطين ولأن فلسطين محتلة، وبحاجة إلى وحدة وطنيّة لمواجهة الاحتلال، ولأن “حماس” بالرغم من أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أنها يجب أن تُوجِد مسافة بينها وبين الإخوان، وتعطي الأولويّة لكونها حركة فلسطينيّة نشأت كحركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي وقدمت مؤسسها ومعظم قيادتها وآلاف الكوادر والأعضاء والأنصار شهداء، إضافة إلى الأسرى والجرحى وأشكال المعاناة المختلفة.

إضافة إلى ما سبق، فإن “حماس” التي قامت بانقلابها العسكري في حزيران 2007 لا تتحمل وحدها المسؤوليّة عن وقوع الانقسام ولا عن استمراره حتى الآن. فـ”حماس” تبرر انقلابها بأنها اضطرت له كونها لم تُمكّن من الحكم رغم فوزها بالانتخابات، لا عندما شكلت حكومة بمفردها، ولا عندما شاركت بحكومة وحدة وطنيّة، ولذلك تغدّت بـ”فتح” قبل أن تتعشى بها.

الخلاصة مما سبق أن فلسطين بحاجة إلى “حركة تمرد” فلسطينيّة لإنهاء الانقسام في مواجهة دعاته وأطرافه، وفرض إرادة الشعب الفلسطيني عليهم، خصوصًا جماعات مصالح الانقسام التي ازدادت غنى ونفوذا في الضفة الغربيّة وقطاع غزة.

إن استنساخ التجربة المصريّة من دون مراعاة الخصائص الفلسطينيّة يمكن أن يؤدي إلى عودة الاقتتال الفلسطيني، وخصوصًا في غزة في ظل الوضع الصعب جدًا الذي تعيشه “حماس”، سواء جراء أخطائها، أو نتيجة لانعكاس ما جرى ويجري في المنطقة عليها. فالمطلوب إيجاد مخرج لـ”حماس” يمكنها من الانضواء تحت مظلة الوحدة الوطنيّة ضمن مشاركة ومن دون مغالبة.

إضافة إلى الانتفاضة على سلطة “حماس” في غزة، فإن هناك دعوة قديمة جديدة أطلت برأسها بقوة على خلفيّة ما جرى في مصر، وذلك من خلال التركيز على إجراء الانتخابات خلال ثلاثة أشهر من دون الاتفاق على برنامج سياسي ولا على كيفيّة مواجهة التحديات التي تواجه القضيّة الفلسطينيّة، خصوصًا في مرحلة فقدان الأمل بإقامة دولة فلسطينيّة جرّاء طبيعة المشروع الصهيونيّ وأطماعه، وما أدّى إليه من سيادة الفكر والسياسات اليمينيّة والمتطرّفة في إسرائيل، وفي ظل تعمّق الانقسام أفقيًّا وعموديًّا.

كيف يمكن إجراء انتخابات في ظل وجود أجهزة أمنيّة تابعة لهذا الطرف أو ذاك وليست أجهزة للشعب كله؟ في ظل هذا الوضع، إذا جرت الانتخابات ستكون أداة لحسم الصراع الداخلي، الأمر الذي يفاقم الانقسام. فإذا جرت الانتخابات من دون تزوير وفازت “فتح” فإن “حماس” لن تعترف بالنتائج بذريعة جاهزة سلفًا بأنها مزورة، وإذا فازت “حماس” واعترفت “فتح” بهذا الفوز فإنها لن تتمكن من الحكم في الضفة، لأن الاحتلال في المرصاد ولن يوافق على حكم “حماس” إلا عندما تستكمل “اعتدالها” بالموافقة الصريحة والكاملة على شروط اللجنة الرباعيّة.

إن ما يجري في مصر منذ الثورة وحتى الآن لا يعزز المطالبة الفلسطينيّة بالتوجه إلى الانتخابات فورًا، بل يوجب التوافق أولًا على ميثاق وطني يتضمن “ركائز المصلحة الوطنيّة العليا”. فالخطأ الفادح الذي ارتكبته جماعة الإخوان أنها أيدت إجراء انتخابات قبل وضع الدستور لكي تتمكن من وضع دستور على مقاسها وإقصاء الآخرين؛ الأمر الذي فجر الموقف كله ضدها.

إن التجربة الفلسطينيّة لا تزال طريّة في الأذهان، وبرهنت على أن الانتخابات تحت الاحتلال أو في مرحلة انتقاليّة من دون الاتفاق على الأهداف والمرجعيات وأشكال العمل والنضال الأساسيّة تضر ولا تنفع.

لقد جرت انتخابات في مصر لكنها لم تحل شيئًا، وتفجرت الثورة ضد رئيس منتخب ديمقراطيًّا، فالانتخابات كان لابد وأن يسبقها توافق على الدستور “أبو القوانين جميعًا”، الذي يحتاج إقراره إلى إجماع أو أغلبيّة ساحقة على الأقل. فلا يحق باسم الديمقراطيّة أن تقوم أغلبيّة بسيطة فازت في دورة واحدة بتفويض نفسها بصياغة الوضع كله على مقاسها، بحجة أنها فازت في الانتخابات، فالانتخابات أداة من أدوات الديمقراطيّة وليست الديمقراطيّة، والديمقراطيّة تحمي ليس حق الأغلبيّة في الحكم فقط، وإنما بنفس القدر تحمي حق الأقليّة في المعارضة وفي النضال من أجل الوصول إلى الحكم.

إنّ من يُصرّ على أن الانتخابات تحت الاحتلال وفي ظل الحالة الراهنة المتمثلة في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وشلل المنظمة وفقدان الاتجاه وتهميش القضيّة هي المدخل لإنهاء الانقسام، يصر بشكل واعٍ أو غير واعٍ على وضع الفلسطينيين تحت رحمة الاحتلال. فالاحتلال بوصفه لاعبًا فاعلًا ودوره مضاعف في ظل الانقسام وانشغال العرب بما يجري في بلدانهم يقف بالمرصاد لضمان أن تأتي الانتخابات في سياق عمليّة سياسيّة تخدمه، مثلما حصل في انتخابات 1996 و2006، وإذا لم يضمن ذلك لن يسمح بإجرائها.

أخشى ما أخشاه أن تؤدي الأحداث في مصر إلى تبرير أو تسهيل العودة إلى استئناف المفاوضات العبثيّة التي أوصلتنا إلى الكارثة والمرشحة إلى إيصالنا إلى كارثة أكبر في حال استئنافها من دون قوة وبلا مرجعيّة وإطار دولي فاعل قادر على فرض القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وليس التفاوض حول الحقوق.

هناك من استنتج مما جرى في مصر بأن الإسلام السياسي يجب إقصاؤه، لأنه معادٍ للديمقراطيّة ولا يقبل الآخر ولا المشاركة من أحد، ولا يدري أن إقصاء الإخوان أخطر من حكمهم، وأن الجريمة الأكبر أن يتم التعامل معهم كمجرمين وليسوا خاسرين.

صحيح أن الإسلام السياسي لا يؤمن حقًا بالديمقراطيّة، ويتعامل مع الانتخابات على أنها عرس لمرة واحدة، لكنه ليس لوحده إقصائيًا للآخر، بل إن الاتجاهات الأخرى القوميّة واليساريّة والليبراليّة في الغالب الأعم إقصائيّة ولا تؤمن حقًا بالمشاركة، وأقصى ما ذهبت إليه الموافقة على مشاركة الاتجاه الإسلامي كأقليّة تحت قيادتها.

فإذا كان الاتجاه الإسلامي يحتكر الدين والحقيقة ويدعي العديد من أنصاره أنهم ظل الله على الأرض، ويعتبر أن معارضيه كفار (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار)؛ فإن الاتجاهات الأخرى تحتكر الوطنيّة والديمقراطيّة، وتعتبر أن الاتجاه الأصولي يجب أن يحارب ويمنع من المشاركة على أساس إما نحن أو هم.

إن وقائع السنوات السابقة وعجز كل طرف لوحده عن تحقيق الأهداف الفلسطينيّة والحفاظ على ما لديه وتدهور مكانة القضيّة الفلسطينيّة، وما حدث تحديدًا منذ “إعلان القاهرة” في آذار 2005 مرورًا باتفاقيّة الأسرى واتفاق مكة وانتهاء باتفاق القاهرة و”إعلان الدوحة” بين الأطراف المتنازعة وحتى الآن؛ تدل على حدوث تقارب واسع في البرامج والممارسات بين الأطراف المتنازعة، بدليل أن الصراع على السلطة التي هي بلا سلطة وتحت الاحتلال طغى على كل شيء آخر، وأدى إلى حالة من التنافس على كسب ود الاحتلال وعلى الحصول على الاعتراف العربي والإقليمي والدولي، على أساس الالتزام من “فتح” و”حماس” ببرنامج الدولة الفلسطينيّة على حدود 1967، ووقف المقاومة، وضمان استمرار ذلك من خلال التنسيق الأمني المباشر الفلسطيني – الإسرائيلي التزامًا باتفاق أوسلو، أو تعليقها وضمان ذلك من خلال التنسيق الأمني غير المباشر من خلال مصر، بينما يتغنى الجميع بالمقاومة الشعبيّة التي لم نراها تتحول إلى إستراتيجيّة شاملة، بل مجرد تكتيك يستهدف المساعدة على استئناف المفاوضات.

إن الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من تجربة ما يسمى “الربيع العربي”، ومن التجربتين المصريّة والفلسطينيّة؛ أن التوافق الوطني لبلد تحت الاحتلال أو يعيش في مرحلة انتقاليّة أهم مصدر للشرعيّة والنجاح.

وإذا كان أي شعب يواجه تحديات داخليّة وخارجيّة جسيمة منقسمًا بين تيارين أو أكثر فإنه سيكون عرضة لكل أنواع التدخلات والتأثيرات الخارجيّة، وأسيرًا للعناصر الهامشيّة المتطرفة في بلاده في هذا البلد أو ذاك.

لا يستطيع طرف أن ينفرد بقيادة شعب تحت الاحتلال أو بمرحلة انتقاليّة، فقد انتهى عصر الزعيم الخالد أو الحزب القائد أو العائلة الحاكمة الملكيّة أو الجمهوريّة، ومن لا يدرك أهميّة ما يجري في المنطقة بعد الثورتين التونسيّة والمصريّة، حين خرج المواطن العربي من القمقم بإدراكه أنه قادر على التغيير، وبعد أن أصبح الحاكم العربي حتى في البلدان التي لم تشهد ثورات يدرك أنه لا يستطيع الحكم بنفس الطريقة السابقة، وعليه أن يأخذ مصالح شعبه وأهدافه وطموحاته الفرديّة والعامة في الحسبان.

لا بد أن تؤدي المتغيّرات والثورات العربيّة إلى وضع عربي أفضل بما لا يُقاس ولو بعد حين .. هكذا جرى الأمر عبر التاريخ، ولدى مختلف الأمم، ولن يشذ العرب عن الطريق.

المركز الفلسطيني للاعلام والأبحاث (بدائل)، 9/7/2013

مقالات ذات صلة