المقالات

بائـع الأوهـام | بقلم صقر ابو فخر

لم يحمل معه الرئيس الأميركي باراك أوباما في زيارته الأولى الى فلسطين أي هدية؛ بل حاول أن يبيعنا جوزاً فارغاً، وأن يشتري من اسرائيل، في الوقت نفسه، تجديداً للتحالف الوثيق بينهما، ولا سيما في الشأن الايراني. ومن غير الواضح، حتى الآن، لماذا مُنح أوباما جائزة نوبل للسلام في بداية ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، مع أنه لم يتمكن طوال أربع سنوات من جلب السلام الى المناطق المشتعلة، ولا الاستقرار الى البلاد المضطربة.

فالتدخل في العراق الذي بدأ في عهد سلفه جورج بوش، لم يأتِ بالديمقراطية الى هذا البلد المعذَّب، بل غمرته الطائفية واستمرت الحال على ما هي عليه في عهد أوباما. والتدخل في أفغانستان لم يجلب الاستقرار بل عمت الفوضى. حتى أن سقوط الرؤساء حسني مبارك في مصر وعلي عبدالله صالح في اليمن وزين العابدين بن علي في تونس ل يحقق الاستقرار لهذه البلدان، بل الفوضى. وفي جميع الحالات فإن الازدهار والرخاء هما البضاعة الغائبة عن جميع الأماكن التي تتدخل الولايات المتحدة فيها بشكل مباشر. وزيارة أوباما الى اسرائيل(والى فلسطين والأردن استطراداً) هي الأولى له. قبل ذلك زار مصر وتركيا في سنة 2009 وتجنب زيارة اسرائيل التي عتبت عليه كثيراً لأنه سار خلافاً لأسلافه من الرؤساء الأميركيين الذين تعودوا أن يزوروا اسرائيل دائماً، تدعيماً لها، أو دعماً لمواقفها، أو تهديداً للعرب إن فكروا في مواجهتها. وهذه الزيارة هي التاسعة منذ أربعين سنة؛ فقد زار الرئيس ريتشارد نيكسون اسرائيل في سنة 1974 بعد توقيع اتفاق فك الاشتباك بين الجيش المصري والسوري والجيش الاسرائيلي غداة حرب تشرين الأول 1973، وزارها الرئيس جيمي كارتر في سنة 1979 لوضع اللمسات الأخيرة على معاهدة السلام مع مصر، وزارها الرئيس بيل كلينتون أربع مرات: في سنة 1994 لحضور احتفالات توقيع اتفاق وادي عربة، وفي سنة 1995 لحضور جنازة يتسحاق رابين، وفي سنة 1996 لدعم شمعون بيريز في الانتخابات التي خسرها في أي حال، وفي سنة 1998 بعد اتفاقية “وادي بلانتيشن” بين السلطة الفلسطينية وحكومة بنيامين نتنياهو. ثم زار الرئيس جورج بوش الابن اسرائيل في سنة 2008 بعد مؤتمر انابوليس، وزارها ثانية في السنة نفسها للمشاركة في الذكرى الستين لقيام اسرائيل. وجميع هذه الزيارات لم تحمل السلام الى فلسطين على الرغم من جميع الخطب المدروسة التي دعت الى السلام في المنطقة.

ليست سياحة

أوحت هذه الزيارة لبعض المحللين، بمن فيهم توماس فريدمان، بأن الجانب السياحي هو العنصر الظاهر في جولة الرئيس أوباما، ولاسيما أنه سيزور المتحف الاسرائيلي وكنيسة المهد في بيت لحم والبتراء في الأردن، وسيتناول إفطاراً الى مائدة شمعون بيريز فيه فول وفلافل وزيت الزيتون…الخ. والحقيقة أن هذه التفصيلات مجرد فلكلور، أو لمسات تزينية مثل زيارته نُصُب “ياد فاشيم” المكرس لذكرى اليهود من ضحايا النازية. ومع ذلك فإن الرئيس أوباما لم يحمل معه، بالفعل، أي خطة سلام، او حتى مجرد رؤية محددة للسلام. وهذا ما قاله بالتحديد لوفد الجمعيات العربية – الأميركية الذي التقاه في واشنطن في 11/3/2013.

وهو لن يمارس أي ضغط جدي على الحكومة الاسرائيلية الحديدة، وهي حكومة غير مستعدة، كما يبدو، للتراجع عن مواقفها المعروفة في موضوع الاستيطان والأسرى. وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو بالضبط ما قاله أوباما لوفد من “ايباك” (اللوبي اليهودي في أميركا) التقاه عشية زيارته اسرائيل. وهذه الأمور جاءت واضحة في خطابه الاستهلالي في 20/3/2013 حين شدّد أوباما على أمن اسرائيل، وتعهد تمويل القبة الحديدة لحماية الأجواء الاسرائيلية، وكأن الفلسطينيين هم من يهدد أمن اسرائيل. وفي أي حال جاء خطاب أوباما تقليدياً، ولا يختلف عن خطب كثيرة لرؤساء أميركيين سبقوه، بل إنه حمل مضامين فيها بعض المقايضة الهاذية؛ فقد طلب من الفلسطينيين والعرب الاعتراف بيهودية دولة اسرائيل من دون ان يقدم لها أي مقابل. وكل ما قدمه في هذا الميدان هو أنه شرح للإسرائيليين ان أمن اسرائيل سيتحقق اذا تم التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين تقوم على حل الدولتين.

الى بنيامين نتنياهو يقول، هو أيضاً، بحل الدولتين، وإنه لا يعارض قيام دولة فلسطينية مترابطة وقابلة للحياة. لكن هذه الصيغة تحمل في ثناياها احتيالاً سياسياً خطيراً؛ فهذه الدولة في نظر نتنياهو هي دولة من دون القدس، ومن دون كتل المستعمرات الكبيرة التي أنشأتها اسرائيل حول القدس وأسكنت فيها نحو 400 ألف اسرائيلي، ومن دون سيادة، ومنزوعة السلاح، ومن دون حل قضية اللاجئين… الـخ. ومثل هذا العرض لا يمكن أن يقبله أي فلسطيني على الاطلاق.

عين على ايران

جوهر زيارة الرئيس أوباما الى اسرائيل وفلسطين والأردن ليس تحريك المفاوضات المباشرة بين السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل، والتي يمكن تحريكها في اي لحظة ملائمة، وليس تطوير رؤية جديدة للسلام في المنطقة، أو خطة تفصيلية للسلام، أو اعادة الاعتبار لمبادرة السلام العربية الميتة، أو خريطة الطريق المجمدة، إنما إقامة تحالف اقليمي ذي طابع أمني لمواجهة المخاطر التالية: السلاح النووي الايراني؛ الصواريخ الايرانية بعيدة المدى؛ الارهاب. وهذه المخاطر التي شرحها أوباما بنفسه في خطبته أمام مؤتمر “ايباك” في آذار 2013، تتلاءم تماما مع الأولويات الأميركية في هذه الحقبة وهي : مواجهة الوضع المالي المضطرب للولايات المتحدة، الحرب الباردة الجديدة مع روسيا، ايران ومنظومة الأمن الاقليمي لدول الخليج العربي، سوريا. وهذه الأولويات تكاد تتطابق تماماً مع “التحديات” الأمنية التي تواجه اسرائيل ” التي أفاض موشي يعلون”، وزير الدفاع الاسرائيلي الجديد، في عرضها أمام مؤتمر هيرتسيليا السنوي، والتي حصرها بثلاث هي: السلاح النووي الايراني، والصواريخ بعيدة المدى، والإرهاب. وفي معمعان هذه المخاطر نجح أوباما، كما يبدو، في إقناع نتنياهو وحكومته الجديدة بتفادي أي تدخل مباشر في ايران خلال سنة 2013، والاكتفاء باستخدام العقوبات والحصار والضغط السياسي، على الأقل حتى نهاية سنة 2013، أي خلال المفاوضات الايرانية – الدولية في شأن المشروع النووي، والتي ستنتهي في تشرين الأول المقبل، وسيتم تقدير الموقف بعد ذلك ، وبناء على هذا التقدير يمكن اتخاذ الموقف العملي الملائم أكان توجيه ضربة ماحقة للمنشآت النووية الايرانية او غير ذلك من الخيارات.

إن اسرائيل مستعجلة على تدمير المشروع النووي الايراني، وتعتقد أن ايران سيكون في إمكانها، ابتداء من حزيران 2013 الانتقال الى صنع قنبلة نووية، ويجب منع إيران من امتلاك هذه القدرة في صيف هذه السنة. غير ان الولايات المتحدة ترى أن ايران لم تتمكن، حتى الآن، من تخصيب الكمية اللازمة من اليورانيوم لصنع قنبلة نووية، وأن في الامكان اعاقة هذا المشروع من خلال حظر تصدير التكنولوجيا الضرورية لهذه الغاية، والتفاهم مع روسيا على منع ايران من تخصيب اليورانيوم بالكمية المطلوبة. ويبدو أن هناك سباقاً بين هذين الموقفين، مع أن أوباما وجه انذاراً الى ايران حين أكد أن من حق اسرائيل القيام بعمل منفرد لتدمير المنشآت النووية الايرانية كما فعلت في العراق وسوريا.

دوام الحال على ما هي عليه

أمام هذه التعقيدات العصيبة التي تدفقت على المنطقة خلال عشر سنوات فقط، أي منذ احتلال العراق في سنة 2003 والتي تجسدت بظهور لاعبين كبار في المنطقة أمثال ايران وتركيا، علاوة على انفجار بعض المجتمعات العربية وآخرها سوريا، ثم عودة روسيا ليكون لها شأن في تقرير مصائر هذه البلاد، ذلك كله أضاف تشابكاً معطّلاً للسياسة الفلسطينية الواقعية وللنضال الفلسطيني الثوري معاً. ومن دون الغوص في تفصيلات الوضع الفلسطيني العام، يمكن القول ان الخيارات السياسية الفلسطينية تكاد تنحصر بأربعة: حل الدولتين؛ الدولة الموقتة؛ الخيار الاردني؛ الدولة الواحدة ثنائية القومية. إن حل الدولتين هو الأكثر احتمالاً وواقعية، لكنة مع ذلك، صار شبه مستحيل في هذه الأحوال جراء تشابكات الاوضاع، وتنافر المصالح الاقليمية والدولية. أما حل الدولة الواحدة، وهو أكثر عدالة من حل الدولتين، فهو غير ممكن على الاطلاق. في حين أن الخيار الاردني مرفوض فلسطينياً وأردنياً، وهو حل يُعتر تنفيذه كارثة تاريخية للشعب الفلسطيني ولقضية فلسطين، وهو مثل حل “الدولة الموقتة” لا نصيب له من الحياة. والمعروف أن حل الدولتين الذي يطيب للاسرائيليين والأميركيين ان يتذكروه أحياناً لم يتلقَ اي دعم أميركي على الاطلاق، وان اسرائيل هي التي تقضي على هذا الحل بالاستيطان الذي تضاعف 25% خلال سنة 2012 وحدها.

يلوح لي ان الامور سائرة نحو الحل العنصري على طريقة جنوب افريقيا: أقلية مهاجرة (صارت أكثرية) تحكم سكان البلاد الاصليين الذين تتسرب بلادهم يومياً من أيديهم، ويجري دفعهم اما الى الهجرة أو الى العيش كأقلية في أماكن مخصوصة مثل معازل السود في جنوب افريقيا. وفي هذا المجال اكتشف الجميع ان زيارة اوباما الى اسرائيل أفصحت عن أن بقاء الحال على ما هي عليه في السياسة الحقيقية لأميركا في ما يتعلق بقضية فلسطين. والدليل على ذلك أن اوباما سيفوِّض جون كيري، وزير خارجيته، متابعة الشؤون الفلسطينية – الاسرائيلية وقضايا المفاوضات، وأن نتنياهو سيكلف تسبني ليفني مهمة التفاوض مع الفلسطينيين. ولن تتغير موازين القوى قبل انقشاع الغمة عن سماء سوريا، وفي أي مرسى سترسو أحوال دمشق، الا إذا اندلعت انتفاضة فلسطينية شاملة تغير الستاتيكو الحالي. وهذا احتمال ممكن.

بقلم / صقر ابو فخر
29-03-2013

مقالات ذات صلة