أخبار الجاليات العربية

الفلسطينيون في أمريكا اللاتينية: العودة إلى الجذور

تزامن عقد مؤتمر الاتحاد الفلسطيني لأمريكا اللاتينية بمدينة برانْـكيـّا في شمال كولمبيا، مع تصريحات الصهيوني الفاشي بتسلئيل سيموتريتش، بإنكار وجود الشعب الفلسطيني واعتباره شعبا اخترع قبل 100 سنة. وكم وجدت الرد بليغا على هذا المعتوه عندما شاهدت أبناء الجيل الثالث والرابع والخامس من أبناء فلسطين في مهاجر أمريكا اللاتينية، يقدمون الدبكات الفلسطينية ويحملون الأعلام الفلسطينية كأنهم من سكان مخيم الدهيشة أو جنين أو بيت لحم. هؤلاء الصغار تعود جذورهم أساسا إلى ثلاث بلدات فلسطينية، بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. احتفظ آباؤهم وأمهاتهم بشجرة العائلة، وحافظوا على الخيط الرفيع الذي يعود بهم إلى مواطن آبائهم وأجدادهم، ثم يأتي الآن حاقد موتور ويضع خلفه خريطة لما يسمى «إسرائيل الكبرى» تضم كل فلسطين والأردن وأجزاء من سوريا والسعودية، ثم يعلن، كما أعلنت غولدا مائير من قبله، بأن لا وجود للشعب الفلسطيني. أن يأتي أبناء الجيل الرابع والخامس ويؤكدون انتماءهم لفلسطين، فهذا، لعمري، بشارة نصر آت لا ريب فيه، يوم نرى تفكيك هذا الكيان العنصري البغيض، الذي أصبح خارج المنظومات الإنسانية جميعها، ولا يتصرف كالبشر في عالم اليوم ووصلت نسبة المعارضة لمسلكياته غير الإنسانية مستويات غير مسبوقة؟
كيان يحتجز الجثامين بالمئات ويحاكم الأطفال في محاكم عسكرية، ويحرق بعضهم وهم نائمون، ويجبر صاحب البيت على هدمه، ويطلق النار على الأطفال لمجرد الاشتباه، ويطالب بإبادة القرى والبلدات ويسلح المستوطنين ثم يظل يرتعد من الخوف من الفلسطينيين، فيتكئ على الولايات المتحدة ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية البائسة لحمايته من هؤلاء الأطفال، لا بد زائل والمسألة مسألة وقت. ولو تنحاز السلطة الفلسطينية لشعبها وتتحول قوات الأمن درعا لحماية الشعب الفلسطيني بدل حماية قوات الاحتلال والمستوطنين، لانهار هذا الكيان المرتجف خوفا، رغم أنه مسلح.

هجرة الفلسطينيين إلى أمريكا اللاتينية

كان أبناء فلسطين ولبنان وسوريا يتجمعون مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مرسيلية بفرنسا، ويأخذون السفن التي تعبر المحيط ليصلوا بعد نحو أربعين يوما إلى مدينة برانكيا في كولمبيا الواقعة على نهر المجدلية الكبير. ومن هناك يتوزعون إلى دول أمريكا اللاتينية. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في تشيلي وهندوراس والسلفادور والبيرو وكولمبيا. وبعضهم آثر أن يستقر في برانكيا ويبني حياته هناك مثل عائلة أبو شايبة من بيت جالا، التي أصبحت من أكبر العائلات الصناعية والسياسية في البلاد، حيث وصل أحد أبنائها إلى رئاسة البرلمان، لكن تشيلي جذبت أكثر المهاجرين الفلسطينيين، الذين بدأوا حياتهم باعة متجولين، ثم انتهى الأمر بهم ليصبحوا من كبار الصناعيين وأصحاب البنوك وخطوط التجارة الدولية. لقد أنشأ خوان أبو جارور في تشيلي مصنعا للأقمشة القطنية عام 1936 وأصبح أكبر مصنع في البلاد. كما أنشأ الفلسطينيون ثلاثة بنوك هي: بنك تشيلي وكوربنكا وبنك فلسطين. كان الاندماج في المجتمعات المحلية أمرا سهلا، بسبب ظاهرة الزواج المختلط، وبدأت علاقتهم بالوطن الأم فلسطين تتراجع منذ تحول وضع فلسطين من إقليم تابع للدولة العثمانية، إلى بلد تحت الانتداب البريطاني. فقد عقـّد هذا التحول حياتهم، ولم تعد العودة إلى فلسطين سهلة، بعد أن فقدوا صلاحيات جوازات السفر العثماني، وأصبح مطلوبا تأشيرة من القنصليات البريطانية لزيارة فلسطين ولم يكن الحصول عليها سهلا. بدأ الفلسطينيون ينظمون أنفسهم، خاصة الجيل الثاني والثالث الذين فقدوا القدرة على التحدث بالعربية، لكنهم ظلوا يتابعون أخبار الوطن، وأصدروا صحفا محلية تعنى بشؤون البلاد مثل جريدة «إصلاح» في تشيلي باللغة الإسبانية بين عامي 1930 و1942 وأنشئت النوادي الرياضية والروابط الوطنية، بل أنشئت رابطة تجمع بين فلسطينيي تشيلي وكولمبيا والأرجنتين والسلفادور وهندوراس. وبدا راديو «صوت فلسطين» يبث بالإسبانية من سانتياغو عام 1962 لكنهم ظلوا مخلصين لأوطانهم الجديدة، وظل ارتباطهم بفلسطين ارتباطا عاطفيا عن بعد، وتبرعات وزيارات متناثرة. لقد فشل وفد من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1966 لتشيلي وهندوراس وبيرو وبوليفيا من إقناع مجموعة من زعماء الجاليات الفلسطينية بالانضمام لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني. لكن حركة النهوض الفلسطيني العام في فلسطين ودول الطوق بدأ بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 وصعود حركات المقاومة بقيادة «فتح» التي استولت على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968. بدأ الشعب الفلسطيني في المهاجر يعود من الغياب والضياع ووجد في المنظمة الخيمة الجامعة لأطيافه وفصائله وأحزابه ونقاباته واتحاداته كافة. وكما كان النهوض في منطقة الصراع الأساسية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، انتشرت موجات عودة الانتماء إلى فلسطين في كل مناطق الشتات الفلسطينية في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. لكن انتماء الفلسطينيين في جنوب أمريكا ظل ضعيفا نسبيا، خاصة أن معظم الجاليات كانت تنتمي للتيارات اليمينية المحافظة، بسبب ارتباط مصالحهم كرجال أعمال بالدولة والجيش بحثا عن الاستقرار. لقد تأثرت الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية بمجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، حيث عززت الوحدة بينها وعقدوا لأول مرة مؤتمرا في ساوباولو بالبرازيل عام 1984 وانتخبوا 11 شخصا لتمثيل فلسطينيي أمريكا اللاتينية في المجلس الوطني الفلسطيني. كما تعزز انتماء الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية للقضية الفلسطينية أكثر بعد الانتفاضة الأولى عام 1987، التي شعر الفلسطينيون في الخارج بأنهم ينتمون إليها، وأنهم جزء من الانتفاضة. لقد لعبت الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية دورا أساسيا في الضغط على الحكومات المحلية للاعتراف بدولة فلسطين وفتح سفارات، أو ممثليات لها في معظم هذه الدول، كما انخرط الكثيرون منهم في السياسة المحلية وأصبح منهم الرؤساء والوزراء والسفراء. كما أصبحت الجاليات الآن من أكبر مناصري برنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات المعروف بـ(BDS).

بُعـْد الإنسان الفلسطيني عن وطنه لأسباب قسرية، لا يفقده شخصيته المميزة وهويته الوطنية وانتماءه لشعبه وإسهامه في مشروع التحرير والعودة

حول مؤتمر برانكيا

الاتحاد نسبيا جديد بعد فشل مجموعة محاولات لإقامة منظمة أو اتحاد شامل لكل الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية، خاصة أن سفراء السلطة يعملون على ربط سياسات الجاليات بها، وهو أمر في غالبيته غير مقبول ومعطّل. عقد الاتحاد مؤتمره الأول في السلفادور عام 2019 وانتخب لجنة تنفيذية تأثر عملها كثيرا بسبب جائحة كورونا. وهذا مؤتمره الثاني الذي ضم ممثلين عن 11 دولة من أمريكا اللاتينية (ليس من بينها تشيلي)، كثير منهم من جيل الشباب والشابات، يمثلون الطيف السياسي الفلسطيني بشكل عام، كان التعامل الحضاري بين المشاركين والعدد الكبير من الضيوف من الولايات المتحدة والوطن عبر الزوم، والنقاشات الجادة حول الأزمة التي تمر بها القضية تشير إلى نسبة عالية من الوعي وإحساس عال بالمسؤولية التاريخية التي يشعر بها أبناء فلسطين في المهاجر. وأهمية هذا المؤتمر، في رأينا، في وضوح الرؤية السياسية للمشاركين. فبعد نقاشات استمرت ثلاثة أيام تبلور عن اللقاء بيان مهم يؤكد عمق انتماء أبناء الجاليات الفلسطينية في دول أمريكا اللاتينية لشعبهم ووطنهم وحقهم الكامل في تقرير المصير. كما وضّح المؤتمر موقفه من الأزمة الحالية التي تعيشها القضية الفلسطينية، ورفضه المطلق للتنسيق الأمني والتطبيع العربي والضغط على السلطة الفلسطينية، من خلال مؤتمري العقبة وشرم الشيخ لتتحول إلى جهاز قمع لشعبها، بدل الانتصار له. وأكد البيان أن الشخصية الفلسطينية صفة أصيلة لا تتغير بتغير المكان، أو مكان الإقامة، بل تنتقل من جيل إلى جيل وأن بُعـْد الإنسان الفلسطيني عن وطنه لأسباب قسرية، لا يفقده شخصيته المميزة وهويته الوطنية وانتماءه لشعبه وإسهامه في مشروع التحرير والعودة. كما دعا البيان إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتفعيل مؤسساتها، بانتخاب مجلس وطني شامل لأبناء الشعب الفلسطيني كافة في كل مكان يكون مؤتمنا على برنامجه الوطني.
إنني أشعر بالفخر لعودة الروح الوطنية لكل أبناء الشعب الفلسطيني في المهاجر، خاصة في الأمريكتين. إن كل من راهن على تمزيق الشعب الفلسطيني أو تغييبه أو طمسه، إنما يراهن على سراب. وكما أرسل هذا اللقاء رسالة قوية لسموتريتش وكيانه المصطنع الذي ينكر وجود الشعب الفلسطيني، أرسل رسالة أخرى قوية للذين اختصروا في اتفاقيات أوسلو الحقوق وجزأوا الشعب وجزأوا الأرض. فلا يحق لقائد أو مجموعة قيادية أن تعيد تعريف فلسطين وتحديد من هو الفلسطيني، فهذا حق فردي وجماعي لا يستطع كائن من كان أن يسحبه من الملايين التي تعيش في الشتات، فلا حل للمشكلة الفلسطينية إلا بزوال ذلك الكيان العنصري المقيت والفاشي وبناء دولة حرة وديمقراطية غير عنصرية لكل مواطنيها على كل أرض فلسطين دون النظر إلى الجنس أو اللون أو الدين أو العرق، كما أكدت هذه الطليعة من فلسطينيي أمريكا اللاتينية الذين يعدون بالملايين.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

مقالات ذات صلة