المقالات

الشمال بيئة حاضنة للجيش وليس للارهاب…

الشمال بيئة حاضنة للجيش وليس للارهاب…

دافيد عيسى

لم تشكل الاحداث الاخيرة في طرابلس وعكار مفاجأة لدى اللبنانيين، وتبيّن ان كل ما حذرت منه الاجهزة الامنية ونشر في بعض وسائل الاعلام كان صحيحاً، وان الوضع كان فعلاً قابلاً للتفجر في أي وقت، وان الخطة الأمنية التي نفذت في السابق سقطت سقوطاً عظيماً وان المشكلة في طرابلس هي أبعد وأعمق من مشكلة سياسية ومذهبية مزمنة بين ” باب التبانة وبعل محسن”… فبعدما كانت كل الانظار تتجه بقاعاً من جرود عرسال إلى جرود بريتال فإذا بها تتحول “شمالاً ” وتحديداً إلى طرابلس وعكار. ولا نبالغ إذا قلنا ان الجيش اللبناني أحبط مخططاً كبيراً كان سيؤدي إلى تغيير وجه الشمال. وقد نجم عن هذه المعركة الطارئة التي فرضت على الجيش اللبناني عدة نتائج اهمها :

أولى هذه النتائج ان الجيش اللبناني أحبط مخططاً كبيراً كان يحاك لطرابلس وبعض المناطق الشمالية الأخرى ونجح في تجنيب الشمال ولبنان قطوعاً خطراً. وأثبتت المؤسسة العسكرية انها مؤهلة لمحاربة الارهاب والتصدي له وحماية الناس والأمن والأستقرار. وذلك رغم امكاناتها وقدراتها المتواضعة مقارنة بما يقع عليها من مسؤوليات ومهام ورغم انها تواجه ارهاباً منظماً وعدواً من نوع جديد وطبيعة مختلفة، إلا ان المؤسسة العسكرية بما تملكه قيادتها من حزم وتصميم وقرار ورؤية واضحة واصرار على حماية الوطن، وبما يملكه ايضاً أفرادها ضباطاً وجنوداً من عزم وتضحية واستعداد لمواجهة الاخطار قادرة على تولي المهمة بجدارة ونجاح ومسؤولية.

نجح الجيش أولاً في كشف وتفكيك الخلايا النائمة والمجموعات الارهابية والتكفيرية، ووجه اليها ضربة استباقية في الضنية أربكتها وأفقدتها صوابها فعمدت إلى تفجير الوضع في طرابلس بطريقة عشوائية وفوضوية … واستطاع ثانياً من ضبط الوضع الامني في طرابلس محققاً انجازاً أمنياً كبيراً في أسرع وقت ممكن وبأقل خسائر ممكنة، واستطاع الدخول إلى منطقة باب التبانة واحيائها الداخلية فارضاً الامن والاستقرار في هذه المنطقة، وبعدما كانت هذه المنطقة “مقفلة” في وجه الجيش حتى بعد دخول الجيش الى طرابلس وجبل محسن …

وإذا كان البعض يتحدث عن تسوية سياسية أو ” حبيّة ” وبالتراضي فانه يتحدث من خلفية ونية سيئة وكأنه منزعج من الانجاز الامني الذي حققه الجيش اللبناني ويريد ان يحجّمه ويقلل من شأنه، الامور واضحة وضوح الشمس ان الدخول إلى أحياء التبانة ومناطق الاشتباكات وضبط الامن فيها لم يكن ليحصل ويتحقق لولا القرار الحاسم الذي اتخذته قيادة الجيش وهو قرار حسم الفلتان الامني في طرابلس وعكار بكل الطرق والوسائل المتاحة. والمهم كان النتيجة والوصول إلى الهدف المحدد وهو السيطرة الكاملة للجيش على أماكن تواجد الارهابيين في طرابلس وعكار وانهاء كل المظاهر المسلحة …

اما الانكى والاسواء من كل ذلك وفي الوقت الذي كان فيه الجيش يخوض اشرس المعارك ضد المجموعات الارهابية ويسقط له الشهيد تلو الشهيد تعرض قائد الجيش لهجوم كلامي ظالم من احد اعضاء الحكومة خلال حوار تلفزيوني، هجوم خرج عن كل منطق وموضوعية وعقل ومبني على خلفيات سياسية وطموحات شخصية ورئاسية.

ان ما صدر من تجنٍ عن وزير في الحكومة في هذه اللحظة المصيرية والحساسة والدقيقة استفز اللبنانيين وكان معيباً في حقه أولاً وفي حق الحكومة التي ينتمي اليها ثانياً، وطعن للجيش في ظهره من الجبهة الداخلية والتي كان يفترض ان تكون جبهة دعم ومساندة للجيش وقائده في معركته ضد الارهاب وليأتي كلامه مكملاً بطريقة أو باخرى للهجوم الذي تشنه المجموعات الارهابية على الجيش قصد ذلك أم لا .

لكن ما هو اهم من كل هذه المواقف السياسية السخيفة المعروفة الدوافع والاسباب هو الاحتضان الشعبي الكبير للجيش والتعاطف والتفاف حوله من كل اللبنانيين على مختلف فئاتهم وطوائفهم ومذاهبهم وميولهم السياسية والارتياح والثقة اللذان اولوهما لهذه المؤسسة خصوصاً بعدما أعاد الامن والاستقرار والهدوء الى عاصمة الشمال ومنع تهجير اهلها وعطل مخططاً خطراً كان يجري الاعداد له لهز الاستقرار في لبنان وسلخ طرابلس وعكار عن لبنان واقامة إمارة اسلامية في هذه المنطقة …

ان ما حصل في الأيام الماضية هو احباط لمخطط قديم – جديد يشبه إلى حد بعيد ما كان سيحصل في نهر البارد. لكن الفارق ان الجيش كان على علم مسبق بهذا المخطط، وهو السيطرة السريعة على مساحات واسعة من مدينة طرابلس بما فيها ميناء المدينة. وان الجماعات الإرهابية على مختلف انتماءاتها كانت تحضر لهجومات متزامنة على مواقع الجيش والقطع العسكرية في طرابلس وعكار ما يسمح لها بالسيطرة على الطريق الدولية والواجهة البحرية في الشمال، تمهيداً لإعلان الإمارة العتيدة .

الجيش قاتل في طرابلس وعكار بأخلاقه، فهو خاض معركة في مدينة ومنطقة سكنيتين واستعمل النار بدقّة مستهدفاً المسلحين ومتجنباً سقوط الابرياء وزرع الدمار في الاحياء التي كانت عرضة للقتال، فلو كان غير الجيش اللبناني من خاض هذه المعركة، لكان دمّر المنطقة فوق رؤوس المسلحين والاهالي وسقط مئات القتلى من الابرياء وهذا الاداء الراقي في التعامل يجب ان يسجل للجيش اللبناني .

ان نجاح الجيش في طرابلس وضع حداً لكل مقولات ودعوات ” الأمن الذاتي ” التي أزدهر سوقها بعد ” صدمة عرسال ” ووضع اللبنانيين جميعاً في اتجاه واحد وأمام خيار واحد هو دعم الجيش وتقوية قدراته وامكاناته. ولعل المؤشر العملي الأول على هذا المناخ الجديد هو مؤشر الاقبال على التطوع والانخراط في الجيش بمجرد ان قررت قيادة الجيش فتح باب التطوع إضافة إلى المؤشر السياسي المتمثل باللغة السياسية ذاتها خطاباً وموقفاً والتي تحدثت فيها كل القوى والقيادات والاحزاب السياسية عن ضرورة دعم الجيش واحتضانه واعطائه الغطاء والتفويض والقدرات اللازمة لحماية الامن والاستقرار في البلاد …

أحداث الشمال أكدت بما لا يقبل الشك ان البيئة “السنيّة” في الشمال عموماً وطرابلس وعكار خصوصاً هي بيئة حاضنة للجيش ولمشروع الدولة، وليست ابداً كما يروج البعض ويشيع بيئة حاضنة للتطرف والارهاب ومشروع الإمارة والدويلة. فالالتفاف السنيّ على المستويين السياسي والشعبي حول الجيش كان في صلب وأساس الالتفاف اللبناني الجامع وهو ما أدى من جهة إلى توافر أرضية شعبية تتفاعل إيجاباً مع خطوات الجيش واجراءاته، ومن جهة ثانية إلى توافر غطاء سياسي يمنح الجيش الحماية والتفويض ويطلق يديه وسط بيئة حاضنة وشبكة أمان وطنية.

وهنا لا بد من التنويه بالموقف الوطني والحكيم للرئيس سعد الحريري كونه حسم التردد الذي كان ملازماً لمواقف بعض الوزراء والنواب الحاليين والسابقين في طرابلس في بداية المعارك، هذا الموقف الذي ذكرنا بالموقف الوطني لوالده الرئيس الشهيد رفيق الحريري أثناء أحداث الضنيّة في العام 2000 ، والذي دعم يومذاك مشروع الدولة ووحدة جيشه في مواجهة كل اشكال الارهاب والتكفير. نعم سعد الحريري أعلن موقفاً واضحاً لا لبس فيه ولا مواربة، موقف غير قابل للتأويل والاجتهاد في دعم الجيش دعماً صريحاً ومطلقاً والتصدي لكل أشكال التحريض الذي مارسه البعض في الشمال وقطع الطريق على محاولات الاصطياد بالماء العكر والإيقاع بين الجيش والطائفة السنيّة التي هي من صلبه ورافده المعنوي والعملي.

موقف سعد الحريري أثبت مرة جديدة صوابية الرهان على الاعتدال السنيّ الذي هو رأس الحربة في مواجهة التطرف والقضاء على الارهاب . وأنه لأمر جيد ان نحيي سعد الحريري ونحيي كل قوى الاعتدال السنيّ الأخرى على هذا التوجه الذي يعلو على حسابات فئوية ضيقة وغرائز وعصبيات طائفية … ولكن .

وهنا ساقول الامور بكل صدق وموضوعية ان الدعم والتشجيع للاعتدال السني جيدان لكنهما لا يكفيان وحدهما، لان الأمر الاكثر الحاحاً وأهمية هو ان تتم ملاقاة الاعتدال السنيّ الذي يمثله الحريري وتياره من ” حزب الله ” تحديداً وتشجيعه على مواصلة جهوده وخياراته الوطنية، واجراء حوار جدي وصادق وصريح بين مختلف الطوائف والتيارات السياسية يجعلنا نتلمس مكامن القهر والالم عند كل مكوّن من المكونات اللبنانية وهذا يجنب لبنان الأخطار ومزيداً من الدماء والشهداء والدمار، لقد حان وقت التلاقي والحوار ولم يعد جائزاً ان نبقى ندفع الامور إلى ان تنفجر في وجهنا ويقع الهيكل على رؤوس الجميع .

ان احداث طرابلس وعكار كشفت عن واقع لبناني يدعو إلى الارتياح، وهو ان موقف وتوجه اغلبية اللبنانيين من كل الطوائف والاحزاب السياسية هو موقف واحد رافض للارهاب والتكفير واراقة الدماء وداعم ومؤيد للجيش في مهمته لفرض الامن والاستقرار في لبنان .

في الختام … تحت سقف الوحدة الوطنية تصبح مهمة الجيش أقل صعوبة، واحتمالات النجاح والانتصار أكبر حجماً، وإذا كانت الحكومة الحالية تشكل الإطار السياسي والرسمي للشراكة والوحدة الوطنية التي هي العنصر الحاسم في المعركة ضد الارهاب، فان ذلك لا يكفي إذا لم يُدّعم ويُكمّل باستراتيجية وطنية وحوار جدي بين اللبنانيين يضع المصلحة الوطنية اللبنانية العليا فوق كل المصالح الخاصة والشخصية والرئاسية والنيابية والاقليمية والدولية.

ان الخطر الداهم الذي صار في قلب البيت اللبناني يوجب وضع كل الخلافات والسجالات العقيمة جانباً، والتحول إلى الحوار من اجل الاتفاق على استراتيجية مواجهة الارهاب التي لا تحتمل تأجيلاً واهمالا واسترخاء … وهذه الاستراتيجية تقوم على معادلة أكدت عليها أحداث طرابلس وتقوم على اربعة مرتكزات أساسية: احتضان الجيش وتسليحه ودعمه، وتشجيع الاعتدال السنيّ وملاقاته، وعدم شعور اي فريق لبناني بالقهر والغبن والاجحاف، وترجمة الوحدة الوطنية والتساوي بين كل اللبنانيين قولاً وفعلاً.

دافيد عيسى |

2014 – تشرين الثاني – 03

مقالات ذات صلة