المقالات

ملامح تاريخٍ عربيٍ جديد

ملامح تاريخٍ عربيٍ جديد

د. مصطفى يوسف اللداوي

لا يوجد أدنى شك بأن الربيع العربي قد سقط وانتهى إلى الأبد، وأنه لم يعد حلماً ولا أملاً، ولا هدفاً أو غاية، فقد استحال إلى خريفٍ قاحل، وفصلٍ مجذبٍ قحطٍ، فيه شمسٌ رغم الخريف حارقة، تكوي ولا ترحم، وتحرق ولا تتردد، وفيه أفاعي تلسع، وتماسيح تبلع، وذئابٌ تفترس، وثعالب تمكر، وزواحف تتسلل، وبومٌ وغربانٌ تنعق، وبشرٌ هم إلى الشياطين أقرب، تتحالف مع الشر، وتتعاون مع البغي، لا يهمها الحق، ولا يعنيها الشعب أو الوطن، تقتل بلا حساب، وتتهم بلا ضمير، وتتآمر بلا خلقٍ ولا دين.

لم يعد هناك ربيعٌ عربي، فقد ولى متقهقراً ولن يعود، وانكفأ ولن ينهض، وانكسر ولن يجبر، ولفظ أنفاسه مخنوقاً، ولن تبعث فيه الحياة من جديد، فلا طائر الفينيق هو، ولا العنقاء تبعث من الرماد، ولم يعد أحدٌ من العرب يتمناه أو يحبه، أو يسعى لمثله في البلاد التي لم تشهده، أو تلك التي لم تكتوِ بنيرانه اللاهبة، ولم تلسع بأسواطه ذات الذوائب، فقد دفع المواطنون العرب ثمنه دماً وأرواحاً عزيزة في مراحل الصعود، وتكبد أكثر في رحلة الهبوط والانحطاط، التي كانت أوجع وأشد مضاضة، وأكثر ألماً وأعمق جرحاً وأشد نزفاً، فقد أصبح الربيع لعنةً أصابت الشعوب، وحلت بالأوطان، ودمرت الدول والسلطات، وأحالت الأرض إلى بوارٍ وخراب، بعد أن مزقت الدول والجماعات، وشتت الأسر والعائلات، وفرقت أبناء الوطن في كل الأصقاع، أذلاء مهانين، فقراء معدمين، محتاجين ومتسولين.

الربيع العربي سقط وانتهى وحل مكانه فصلٌ آخر، لا يختلف عن القديم في شئ، ولا يتصادم مع مفاهيمه التي سادت ظلماً واعتداءً، وكبتاً للحريات ومصادرةً للحقوق، وفتحاً للسجون والمعتقلات، واستخداماً مفرطاً للقوة، ومبالغةً في الرد والتعامل، وفرضاً لقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وتعطيلاً للقوانين ووقفاً للأحكام، وعاد الأولون، الراحلون والساقطون، الهاربون والفارون، السارقون والفاسدون، المتعاونون والمتآمرون، السياسيون والأمنيون، المخططون والمعذبون، المشرعون والجلادون، عادوا جميعاً إلى المنصة، واعتلوا السدة، حاملين سيفاً يقطر بدمٍ جديد، وقد حدوا شفرتيه، وسلموه إلى جلادٍ حاقدٍ، وسيافٍ موتور، وأطلقوا له العنان، يمخر وسط الأجساد، يبقر البطون، ويستخرج الأكباد، ويمضغ القلوب، ويشرب من الدماء، بنهمٍ لا يشبع، وحقدٍ لا يتوقف، وثأرٍ لا يرتوي، وكراهيةٍ عجيبة، ومعاملةٍ غريبةٍ مقيتة، لا تليق إلا مع الأعداء، ولا تمارس إلا ضد المعتدين الغاصبين.

بالدمِ والقهرِ يكتبُ العربُ تاريخاً جديداً، مخالفاً للآمال، ومتعارضاً مع الأحلام، خائناً للدماء، ومفرطاً بتضحيات الشهداء، متنكباً للغد ومغتالاً للمستقبل، يُكتبُ بقوةٍ لا تردد فيه، ويُفرضُ بعصا غليظة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، وتطبقه أقدامٌ عريضة لا تعرف طريقةً غير الدوس، ولا وسيلةً غير السحق، ولا درباً غير الأجساد تمشي فوقها، بسرعةِ الخائف، وجرأة المجنون، وحقد الأعمى المأفون.

التاريخ العربي يُكتب بمدادٍ أسود، وأيدي ملوثة، ويشرف عليه خبراء مارقون، ومختصون معادون، ممن فاجئتهم الأحداث، وصدمتهم التغييرات، وأربكتهم الثورات، فاستعادوا رشدهم بعد الصدمة، وآبوا إلى مواقعهم بعد الهزة، فأعادوا الكَرَةَ، وانطلقوا من جديد، بخبرة العالمين، ومهنية السابقين، ومعلومات المخزنين، ومشورة المعادين، ونصيحة العالمين، فقد ساءتهم الثورة، وأغضبهم الشباب، وأقلقهم الانعتاق، وأقضت مضاجعهم المشاريع والأحلام، وأربكتهم القدرات والإمكانات، وأخافتهم الوعود والعهود.

انطلقوا بالوجوه القديمة والجديدة، وهم يحملون شعاراتٍ مختلفة، ويبشرون بمستقبلٍ آخر، ويحذرون من أبناء جلدتهم، ممن جاؤوا منتخبين، ووصلوا مختارين، يتهمونهم بالفوضى والإرهاب، والعنف والخراب، وهم الذين يعلنون كل يومٍ سلميتهم، ويؤكدون على شرعية مطالبهم، ودستورية تحركاتهم، وأنهم مع ديمقراطية البلاد، وتطور الأوطان، وحقوق المواطنين، وسمو القوانين، وفصل السلطات، واستقلال القضاء، وأنهم لن يكونوا مخالفين أو معارضين، بل سيلتزمون القانون، وسيحترمون الدستور، وسيكونون مع مصالح الأوطان العليا.

لكن القلم قد جرى بغير ما أرادت الشعوب، وبعكس ما قرر المواطنون، فبدأ يجري في اتجاهٍ آخر، مستغلاً حجم الدم، وعمق الجرح، وشيوع الفوضى والاضطراب، ويأس الناس وعزوف السكان، وتدهور الأوضاع، وتراجع الاقتصاد، وانعدام فرص العمل والبناء، وآفاق التطور والعمران، ليؤكد للجميع أنه الأفضل، وأنه الخيار الأصوب، وأنه الممكن والقادر، وأنه المقبول والمرحب به، وأنه سيعود بالبلاد إلى عهود الأمان، وأزمنة السلام، وأن المواطن في ظلهم لن يجوع ولن يعرى، ولن يشكو الفقر ولن يئن من الألم، وفي ظلهم سيبرأ الجرح، وسيشفى الجسد، وستتفق الأحزاب، وستتعاون القوى، ولن يكون في عهدهم إقصاءٌ ولا إبعاد، ولا حرمانٌ ولا تهميش، بل ستكون الفرص متكافئة، والحظوظ واحدة، والحقوق مكفولة، وسيعم الرخاء، وسينعم الناس، وستغدق علينا الدول والحكومات، وستنهال علينا المساعدات والمعونات، ولن يكون بعد اليوم جوعٌ ولا مخمصة، ولا عوزٌ ولا حاجة، وإنما عزةٌ وكرامة، واكتفاءٌ واستفاضة.

بعد أن استبشرنا بغدٍ مشرقٍ، ومستقبلٍ واعد، وتهيأنا لتاريخٍ جديد نكتبه بإرادتنا، ونسرده بقدراتنا، نحاكي به الآخرين، ونسمو به فوق آمال العاملين، أصابتنا نكسةٌ جديدة، وحلت بنا نكبةٌ كالقديمة، فأقعدتنا وأربكتنا، وأعادتنا إلى الوراء سنين طويلة، فبتنا خائفين مرتعدين، قلقين غير مطمئنين، نتلمس رقابنا، ونقلق على مصائرنا، ونتحسب من القادم المجهول، فهو مرعبٌ ومزلزل، ومخيفٌ ومهدد، وهو فاعلٌ وقادر، ومقتحمٌ غير وجل، ومقدامٌ غير هياب، يحركه الثأر، ويدفعه الحنين إلى الماضي، والرغبة في الانتقام ورد الاعتبار، فهل ينجح العائدون، فينتقمون ممن هز عروشهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأشعلها من حولهم ناراً كادت أن تودي بهم، وبمن كان يقف من ورائهم …

moustafa.leddawi@gmail.com بيروت في 20/9/2013

مقالات ذات صلة