المقالات

اليرموك

اليرموك

نهلة الشهال

ها السلطة في سوريا تنتقل من المنّة على الفلسطينيين، المُذهِبة للحسنات كما نعلم، مذكِّرة على لسان وزير خارجيتها بأن «ما تقدمه سوريا للأخوة الفلسطينيين لم تقدمه أي من الدول المضيفة لهم»، إلى تحميل «الأمم المتحدة والمجتمع الدولي المسؤولية عن حالة إحباطهم، لعدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني»! ولولا حجم الكارثة والمأساة معاً، لاستدعى الأمر تداعياً في المزاح والهزل. وقد قيل هذا بعد قصف مخيم اليرموك للاجئين بالطيران، بحجة تسلل مجموعات من «جبهة النصرة الإسلامية»، البعبع المطلق، إلى أزقته. أنْ يكون هناك مجموعات من تنظيم مرتبط بالقاعدة تعمل في سوريا، أمر لا شك فيه. ولكن، أن يجري القضاء عليها بقتل الناس تطهيراً لهم منها وتخليصا، فمسلك له توصيفات معروفة في علوم السياسة والحروب… والتاريخ.

وأما البدعة الثانية فهي «اللجان الشعبية». وهذه يعمل باسمها تنظيم فلسطيني هو «القيادة العامة»، كان على الدوام منبوذا، لأنه كان يؤجر خدماته للأنظمة، العراقية والليبية والسورية، حسب الظروف. في مصر، يُرسل «الإخوان» لجاناً مشابهة لضرب الناس في التجمعات. وكذلك اشتهرت «لجان حماية الثورة» في تونس إثر اشتباكها مع الاتحاد العام التونسي للشغل، فائق الشعبية، والإطار الوحيد الذي بإمكانه الادعاء أنه قاد الانتفاضة العامة ضد نظام بن علي منذ عامين. «اللجان الشعبية» إذاً تقاتل ضد المجموعات الإرهابية في مخيم اليرموك للاجئين في ضاحية دمشق. تلك هي الصيغة الرسمية التي تعتمدها تصريحات المسؤولين السوريين ووسائل الإعلام الرسمية. ولا يهمها مقدار صدقية القول، بل هي تكتفي بامتلاك رواية يمكنها تردادها، ما ينحدر تحت مستوى البروباغندا، حيث هذه الأخيرة تبغي الإقناع، وتناله بنسب متفاوتة، حسب الزمان والظروف.

في اليرموك، حيث يعيش بأقل تقدير 150 ألف لاجئ، تتحالف «القيادة العامة» مع «الصاعقة» و«جبهة التحرير» (جناحا سلطات البعث السوري والعراقي داخل الخريطة الفلسطينية في الماضي)، و«فتح الانتفاضة». هنا يصل الإدقاع إلى أعلى مستوياته. فإنْ كانت التنظيمات الثلاثة الأولى تمتلك بعض الحيثية التاريخية، وربما ما تعتد به قتالياً في سياق تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، فإن التنظيم الأخير المذكور نشأ كحالة مفتعلة من المخابرات السورية في مجرى صراع حافظ الأسد مع منظمة التحرير بقيادة أبو عمار… مباشرة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. ولا يُسجَّل له في تاريخه سوى انه نجح في شق فتح، حيث عجزت عن ذلك كل الأطراف الأخرى التي حاولت، بما فيها إسرائيل. ثم يسجَّل له كذلك انه منذ بضع سنوات، ولسبب ما زال غامضاً، احتضن «فتح الإسلام» قبيل تسللها إلى لبنان، وتسبُّبها بكارثة مخيم نهر البارد في شمال البلاد، أو قل إتاحة الحجة لتدمير المخيم تماماً، وفق خطط من المرجح أنها كانت مبيتة، وما زالت هي الأخرى، والتصورات السياسية التي تستند إليها، غامضة.

وهذه كلها لعبة قذرة، اليوم كما في الماضي. ومن سوء طالع مخيم اليرموك للاجئين الذي يقع على طرف دمشق، انه يتوسط أحياء سورية متصارعة لأسباب سياسية ومذهبية. وحتى أمس قريب، كان المخيم ملجأ السوريين الهاربين من جحيم القصف بالمدفعية والطيران، وعمليات الاقتحام والاشتباك المباشر. ولكنه دخل المعركة من أبوابها الواسعة، ومن المرجح أن العودة الى الوراء باتت صعبة للغاية، وأن أتون هذه الحرب المدمرة قد شملته، وسيترتب على ذلك نتائج ليس أقلها حركة نزوح كثيفة إلى حيث يمكن، إلى بيوت الأقارب والمعارف في الأردن ولبنان، وانتهاء تلك الحالة التي ميزت بالفعل الوجود الفلسطيني اللاجئ في سوريا، حيث تمتع هؤلاء بحقوق واسعة تكاد تلامس حقوق المواطنية، عدا بعض المناصب. ولكن النتائج السياسية لهذا التطور فادحة. فهي ستنهي الموقف المتحفظ الذي طبع بشكل عام المسلك السياسي الفلسطيني حيال الأزمة السورية، حتى لدى السلطة ولدى «حماس». والأولى لا تحمل في قلبها الكثير من الود للسلطة السورية لأسباب متنوعة، منها ذلك التاريخ القديم من الصراع ونوايا الهيمنة، ومنها خصوصا انحيازاتها إلى مواقف سياسية وجهات دولية وإقليمية معروفة. وأما «حماس»، فبعد أن وقعت بين نارين، وحاولت التوفيق بين ارتباطاتها بسوريا وإيران وانسجامها السياسي مع روايتهما عن الموضوع الفلسطيني، وتلقيها دعمهما المتنوع، وبين ارتباطاتها الأخرى: بالمزاج العام للناس، وبتنظيم «الإخوان المسلمين»، وبقطر وغيرها من دول الخليج… ولاستحالة أن تتصرف كفصيل صغير وتابع، فقد «خرجت» من سوريا. وها هي تجد نفسها تشترك مع السلطة في إدانة قصف مخيم اليرموك وفي تحميل السلطات السورية المسؤولية عن سلامة اللاجئين الفلسطينيين المشمولين، عدا بنود القانون الدولي الإنساني، باتفاقيات وترتيبات دولية خاصة بوضعهم كلاجئين. ولا بد ان الحرج نفسه يصيب «الجبهة الشعبية»، وهي فصيل يمتلك ثقلاً شعبيا ومعنوياً بين الفلسطينيين أينما كان، وكذلك فهو يطال «حركة الجهاد الإسلامي».

بمعنى أن قصف مخيم اليرموك بالطيران وتوجيه الصواريخ إلى مسجد عبد القادر الحسيني، القائد الفلسطيني الرمز، وإصابة محتمين بالجامع كانوا بالمئات، ومقتل العشرات منهم، واستمرار القتال للسيطرة على المخيم، والبيانات التي تلوي عنق الواقع أو تبرر الأحداث بما يوحي بأنها ستستمر… كل ذلك ينهي هامش الحياد الفلسطيني الممكن في الموضوع السوري، والذي كان يتآكل على أية حال بحكم استطالة الأزمة. وهذه عتبة جديدة، لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل تعمق المأساة السورية الدائرة، التي يبدو أنها لن تنتهي إلا بعد خراب البصرة، وأنها تحمل في جعبتها دمار سوريا، عمراناً ومؤسسات وعلاقات اجتماعية. ومن المضحك أن الإدارة الأميركية تريد لهذه المعركة أن تجري وفق ما تشتهي، فلا يشتد كثيراً عود التنظيمات الإسلامية المتطرفة، بل يقوى «الإخوان»، المعتدلون والذين يمكن التفاهم معهم، ويحضر إلى جانبهم الليبراليون، ولو بمقدار. وتريد واشنطن ألا ينهار تماماً الجيش السوري «كما حدث في العراق». وتجهيل الفاعل هنا مثير للاهتمام! وكأن هذه الإدارة نسيت في ظرف عشر سنوات قصيرة أنها من قرر «حل» الجيش العراقي. وحين تُجْبر، تعترف بان ذلك كان «غلطة»… هكذا من دون كلمة اعتذار أو حتى أسف، بينما الغلطة كلفت مئات آلاف الضحايا في بلاد الرافدين، فوق هؤلاء الذين سقطوا في الحروب المعلومة. وهي ما زالت تكلف البلاد عجزاً عن استعادة قوامها، أو هي تؤدي الى ترسيخ قوام منحرف، يفتقر إلى بنية المؤسسة الدولتية. ولعل واشنطن تظن العالم استوديوهات هوليوود، وهي تفشل في كل مرة، ولكنها ليست هي من يدفع ثمن الفشل، بل الشعوب والمجتمعات التي تقيم عليها تجاربها. وبمقابل واشنطن، تتصرف السلطة السورية وكأنها سلطة انكشارية غريبة عن البلد، عليها إخضاعه لها بأي ثمن، ولو كان الدمار التام للبلد نفسه، وبكل المعاني. ولأن الأمر غير مرشح للحسم السريع في أي اتجاه، رغم كل التطورات الميدانية، فهو ينبئ بإنهاك سوريا إنهاكا تاماً، قد يصعب تخيل النتائج القابلة للبناء عليه منذ الآن، ولكنها بالتأكيد ليست في مصلحة المجتمع والشعب السوريين.

السفير، بيروت، 19/12/2012

مقالات ذات صلة