المقالات

هل التردي الأمني في مخيّمات لبنان قـَدَرٌ محتوم أم خَلَلٌ مدروس؟!

افتتاحية مجلة “القدس” العدد 334

سؤالٌ مؤلمٌ يطرح نفسه بقوة الواقع على جميع الأطراف المعنية بأمن المخيّمات. وأهمية السؤال هي أنَّ قضية الأمن وتفاعلاتها شبه اليومية، ومفاعيلها العسكرية، والسياسية، والاجتماعية، والحياتية باتت تفرض نفسها بقوة، فهي أشبه بالكابوس الذي يقضُّ مضاجعَ الأهالي في بيوتهم، وأحيائهم، وهم يتحركون على الطرقات، وفي الأسواق، وعندما يذهبون إلى المدارس، وعندما يغادرون. البعضُ المتمكِّن اختار أن يغادر البيت الذي أسَّسه مع بدايات النكبة ليس كُرهاً به، وإنَّما حفاظاً على أرواح أسرة تربَّت على أنَّ لا عدوَّ لها إلاَّ ذلك المحتل الصهيوني مغتصب الأرض، ومشرِّد الشعب… لكن إلى متى يبقى القنصُ، والتفجيرُ، والقتلُ، والاغتيالُ منتشراً في الأزقّة، وعلى مداخل الأحياء والبيوت، ينشرُ الرعبَ في قلوب الأطفال، والخوفَ في نفوس النساء، والألمَ في وعي الرجال. فهل تحوَّل المخيّمُ إلى ساحة حربٍ وانتقام، وسفك دماء، وتصفية حسابات؟؟!!

الحاج رفعت شناعة
الحاج رفعت شناعة

لا أحدَ يستطيعُ تجاهلَ الأمر، أو التقليلَ من أهمية، أو إدارة الظهرِ لحالة الجنون المفتعَلة، وما يجري هو أشبهُ بحريقٍ يجتاحُ الأخضرَ واليابس.

الجميعُ أمام امتحان صعب ومعقَّد، لأنَّ النظرة إلى المخيّم وكيفية التعاطي معه، ومع مكوِّناته، تختلف من طرفٍ لآخر. فهل وصلت الأطراف إلى مفترق طرق حاد، ولا رجعةَ إلى الوراء، أو أنَّ قنوات الحوار والتفاهم على ضيقها وندرتها ما زالت موجودة؟

للإجابة على هذا السؤال المحوري لا بدَّ من الغوص في عدة قضايا أهمها:

أ‌- ما هي أهداف كل طرف من الأطراف المعنية بواقع ومصير المخيّم؟

ب‌- هل هناك إمكانية للتفاهم من أجل الخروج من الأزمة؟

ج – مَن هي الأطراف التي تمتلك قوة التأثير ومفاتيح الحل والربط؟

للإجابة على السؤال الأول نشير إلى أن أبرز الأطراف المعنية هي الفصائل والقوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية، فصائل “م.ت.ف”، ثُمَّ فصائل التحالف، ثُمَّ القوى الإسلامية، يقابلها الجماعات المعروفة بداعش، والنصرة، وجند الشام، وفتح الإسلام وغيرها وهي تحمل المعتقدات والقناعات ذاتها تقريباً.

القسم الأول من الفصائل لديه قناعات مشتركة لأنَّ هناك اجتماعات وتشكيلات مشتركة، ولجاناً تضمُّ هذه الفصائل وهي تلتقي في نقطة بارزة أهمها رفض القتال في المخيّمات، وإعطاء الأولوية لحماية المدنيين. لكن في التفاصيل هناك تفاوت، ففصائل “م.ت.ف” وخاصة حركة “فتح” ترفض القتال داخل المخيّمات لأنَّه يقود إلى تدمير المشروع الوطني الفلسطيني حيث يحتلُ المخيّمُ مركز الصدارة فيه كونه الشاهد على وجود النكبة، وهو أيضاً الشاهد على انطلاقة الثورة واستعادة الهوية. وفصائل التحالف ليست بعيدة عن هذا الموقف، وإن كانت لديها تحفظات أو تباينات مع مواقف فصائل المنظمة على خلفية القرارات السياسية التي تعتمدها “م.ت.ف”.

أمَّا القوى الإسلامية كعصبة الأنصار، والحركة المجاهدة الإسلامية، وأنصار الله، فهي تتميَّز عن الفريق الأول، بما في ذلك حركة حماس التي هي من فصائل التحالف، بأنَّ لها قنوات حوار مع التنظيمات الخارجة عن الإجماع الفلسطيني، والتي يُطلَق عليها أسماء متعدِّدة مثل القوى الإرهابية، أو القوى التكفيرية، ولها ارتباطات خارجية، مع الجهات المسؤولة عن وجودها في لبنان خاصة تلك التي تقاتل في العراق وسوريا وغيرها. وهذه القوى الإسلامية التي تتزعمها حركة حماس كونها الفصيل الأكبر، وتمتلك الإمكانيات، والعلاقات هي تتعارض مع فصائل “م.ت.ف” بالنسبة لطريقة وأسلوب التعاطي مع الفصائل التي تخوض القتال ضد المنظمة وحلفائها في بعض النواحي، فهي تعتبر هذه الأطراف المسلَّحة والتي تستهدف دائماً كوادر وعناصر حركة “فتح” بالاغتيال والقتل العلني تنظيمات إسلامية، ولا يجوز استهداف أحد من عناصرها، وحتى إِذا تمَّ اعتقال أحد عناصرها بتهمة القتل العمد فلا يجوز تسليمه إلى الدولة اللبنانية لأنَّ الدولة ليست دولة إسلامية، وهم مع حجز القاتل في أحد مكاتبهم فقط. وهذه نقطة جوهرية وحسَّاسة جداً في معالجة موضوع المخيمات أمنياً، فاللجنة الأمنية كانت مكبَّلةً، وصلاحياتُها محدودة في المعالجة، وكانت تظهر ضعيفة أمام الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.

إنَّ الفصائل الخارجة عن الإجماع الفلسطيني تمتلك السلاح والإمكانيات، وهي مدرَّبة جيداً، وفي حالة استنفار دائم، وهي تنفِّذ تعليمات أمرائها بدقة، والتي تصبُّ بمجملها في إطار تسعير وتأجيج نيران الفتنة الداخلية، والقضاء على حالة التعايش الفلسطيني الداخلي. ونسف الترتيبات الأمنية الداخلية كافةً، ومضاعفة الإرباكات والصراعات، وفرض حالة شلل في الحياة اليومية للمجتمع الفلسطيني.

وبدلاً من أن يكون المخيّم الفلسطيني واحةً للعمل الوطني، والتعايش، وساحة للفعل السياسي، ورديفاً للسلم الأهلي اللبناني، يتحوَّل المخيم للأسف بسبب هذا الواقع المأساوي إلى ساحةٍ تملؤها الأحقاد، والجراحُ، وجثث القتلى، والتشريد، والتشتيت.

ولا شك أنَّ انحدار الوضع الأمني والاجتماعي في المخيّمات وخاصةً مخيّم عين الحلوة يثير اهتمام الدولة اللبنانية التي تعتبر ما يحدث جزءاً من أمن المجتمع اللبناني، وأنَّ المشروع العبثي الذي يجري تنفيذه في المخيمات هو جزء من المشروع الأمني الأكبر والأوسع الذي ضرب العديد من الأماكن والمناطق اللبنانية.

فالدولة اللبنانية مارست دورها عبر اللقاءات مع الأطراف الفلسطينية كافةً، وحاولت تطويع بعض المواقف لصالح قرار الإجماع الذي يصون الوضع الفلسطيني ويوحِّده.

أمَّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه وهو إمكانية التفاهم من أجل الخروج من الأزمة، فنحن نؤكِّد بأنَّ التفاهم مع القوى الخارجة عن الإجماع الفلسطيني ممكن إذا ما انطلقنا من المنطلقات التالية:

1-لقد سبق أن بُذِلَت جهود حوارية بين مختلف الأطراف الفلسطينية في مخيّم عين الحلوة منذ أربع سنوات تقريباً، وتوافق الجميع بدون استثناء بحضور اللقاء الموسَّع الذي عُقِد في قاعة الشهيد القائد زياد الأطرش، حيث وقَّع الجميع على وثيقة شرف تنص على الالتزام ببنود الوثيقة، وعدم الخروج عن الإجماع، وهذا يعني أنَّ إمكانية التفاهم إذا قادها رجالٌ ذوو خبرة ومعرفة فهي واردة.

2- لا بدَّ أن يقود الحوار مع هذه القوى الخارجة عن الإجماع فصائل تسمح لها ظروفها بإدارة حوار مسؤول مع هذه الجهات يقوم على أساس القيم الدينية الاجتماعية والأخلاقية، والحرص على أرض المخيّم الذي يجمعنا منذ سبعين سنة، واعتقد أن الإخوة في حركة حماس وعصبة الأنصار، والحركة المجاهدة قادرون على إدارة مثل هذا الحوار للوصول إلى النتائج التي ترضي ربنا، وشعبنا، وضمائرنا آخذين بعين الاعتبار المصالح العليا لشعبنا، والعلاقات الأخوية التي تربطنا كمسلمين. واعتقد أنَّ غياب الحوار الجاد والمسؤول هو سبب تفاقم الأزمة، وازدياد التعقيدات، والوصول إلى حافة الهاوية، وتضخُّم ملفات الشهداء والجرحى، والأضرار، والعداوات. ونحن على ثقة أن بَدْء الحوار سيقود إلى مشاركة جميع الأطراف المعنية، إضافة إلى الدعم غير المباشر الذي تبذله القيادات العسكرية والأمنية اللبنانية في هذا المجال.

3- لا بدَّ من الاستماع إلى الطرف الآخر حول أهدافه من التأزيم المتواصل، والتصعيد الدائم، واللجوء إلى العنف، وعلى ما يُصرِّح به هؤلاء من أسباب يمكننا تقدير الموقف، ومعرفة حقيقة ما يُخطِّط له هؤلاء الشبان والذين غالبيتهم الساحقة من أبناء المخيّم. وهنا لا بد من طرح تساؤلات حول مشروعهم القائم على العنف:

-هل هم يريدون تقسيم المخيم إلى مربَّعات، ثُّمَّ السيطرة عليها بشكل تدريجي، وتثبيت وجودهم كأمر واقع على المخيم، تماماً كما فعل تنظيم (فتح الإسلام) في مخيّم نهر البارد، وإذا تأكّد ذلك فهم يسعون إلى تحويل مخيّم عين الحلوة إلى مخيّم نهر بارد جديد بكل مآسيه، وهذا أمر خطير يستدعي قمّةَ الاستعداد، ووقفَ هذا المشروع حتى لا يكون الأمر مكلفاً.

4- على حركة “فتح” وهي القوة الأساسية في مخيّم عين الحلوة، وهي صاحبة القرار مطلوب منها أن تراجع حساباتها، وأن تعيد النظر في خططها وبرامجها، وأن تدقق جيداً في الأساليب، والوسائل، والأدوات التي تستخدمها، ومدى جديتها، خاصة أن التجربة السابقة أثبتت فشلها، ولم تحقق على الأرض ما كانت تطمح إليه الحركة ومعها الفصائل. ونحن على أبواب مرحلة خطيرة جداً نقول أن القوى الموجودة والمعنية بأمن المخيم إذا ما حزمت أمرها، وأخذت قرارها بعيداً عن أية تكتيكات، قادرة على حسم القضايا، ووضع النقاط على الحروف، وإعادة الأمور إلى نصابها، واستعادة هيبة المخيّم الوطنية الفلسطينية الجامعة.

بقلم: رفعت شناعة

مقالات ذات صلة