المقالات

نحو حراك فكري لتأصيل وتحديث “نظرية” المقاومة

نحو حراك فكري لتأصيل وتحديث “نظرية” المقاومة

اسم الكاتب : أبو علي حسن

تاريخ إدراج المقال : 2013-11-24

“الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها، وانتظار نتائج مختلفة”. عبارة “انيشتاين” حضرت هنا بقصد تأكيد منطق الإضافة، والإصرار على أن إحياء أي مناسبة لا يعني تكرارها فحسب، بل تسليط الضوء على اهمية القيمة المضافة درسا وفكرا وخبرة . ولعل مناسبة انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية اليوم تستوجب التحية من جهة، وتلح على أهمية القضية التي تمثلها، والأهمية الفكرية و القيمية التي تتعدّى مسألة اختصارها في احتفال يتكرّر كل عام من جهة أخرى؛ لأن التذكير بالتضحيات والمآثر الكبيرة التي اجترحها الأبطال تحت الاحتلال عام 1982، وقراءة السياق الذي تلا ذلك تحريراً ونصراً، إنما هو لتأكيد الوفاء الأعظم للدرس العظيم الذي جسدته في مسيرتها، وعياً ومعرفةً، والامل الذي يتخطى الهزيمة، رغم اليأس والاحباط، وظل يتجدّد كإرادة وطنية تُجسّد هوية نضالية في زمن التحوّلات الكبرى.

قتل الفكرة، سواء أكان بنيران صديقة أم بأخطاء شائعة، هو ممارسة أسوأ من التصويب عليها بنيران العدو وصواريخه العابرة للقارات، لكن حتماً ليست عابرة للقناعات الصحيحة والصلبة. لذا فإن الدعوة المباحة هي لمبدأ تحرير اللغة من المفردات السامة في استخدام بعض المفاهيم وتفسيرها أو الخلط في معانيها ودلالاتها، بل ثمّة تشويه متعمّد لبعضها، مثال مفهوم المقاومة/ المواجهة/ الممانعة، وإسباغ أو تغليف كل الموبقات عليها في سياق سياسة ممنهجة للنيل منها كظاهرة مجتمعية، ليكتشف إنه – سواء أكان يدرى أم لا يدري – صار يحمل ثقافة مضادة للمقاومة، لا ناقدة لها.

بعض أدعياء الفقه السياسي والفتاوى السياسية يخلطون بين نظرية المقاومة كمفهوم مرتبط بالصراع، تستوجب استخدام مكونات القوة بالمعنى الاستراتيجي والعلمي للاستخدام من جهة، والموقف من أدوات الفعل المقاوم، حتى بالنظر إلى فشل حاملي لِوائِها من الأنظمة أو القوى السياسية أو الفصائل الوطنية من جهة أخرى. ويحكمون على فكرة المقاومة ارتباطاً بعجزها أو فشلها أو عدم تمكّنها من إحراز النصر الناجز… الأمر الذي يدفعهم إلى تبهيت صورتها كمفهوم وواقع وممارسة، إلى حد نعتها كفكرة وممارسة، ونعت القائمين عليها وأدواتها المحركة بأقذع الأوصاف، لسلبها شرعيتها ومبررات وجودها، حتى إعلان عدم جدواها.

هذا الخلط السيء النية يدفعنا الى محاولة وضع فهم أعمق وأدق لمعنى ومفهوم المقاومة باعتبارها إفرازاً موضوعياً في المجتمعات، ولعلاقتها بالجماعات والأحزاب والقوى السياسية والدولة والمجتمع.وثمة حاجة إلى تأصيل مفهوم المقاومة أو الممانعة في سياقها التاريخي حتى لا نجد أنفسنا أمام تفسيرات البعض وعياً أو جهلا ، أن المقاومة ظاهرة راهنة ومصطنعة وتعني فقط التطرف والعنف المسلح لا غير، وانها نقيضه لمفهوم الدولة.. وأنها تنتسب لمفهوم “اللا دولة “، أو أن السلطة وحدها من يحتكر أدوات العنف، أما هي فظاهرة عبثية وغريبة وطارئة، أومستوردة أو طائفية.

المقاومة بين الخيار والقدر: لأنّ المقاومة ظاهرة اجتماعية تاريخية مرافقة لمظاهر الفقر والظلم والاستبداد أينما وجد، بل لأنها أشد وضوحاً حين تواجه الغزو والاستعمار والاحتلال والعدوان الخارجي. ومتى كان هناك استبداد كانت مقاومة تتجلى في بيئتها، ومحكومة بواقعها “سرية” أو “علنية” جزئية وشاملة، مقاومة منظمة أو عفوية، نخبوية أو شعبية، مسلحة أو سلمية. وعليه فالمقاومة لا تقوم بفعلها كظاهرة مسقطة وفق أجندة خارجية أو “نبت شيطاني”. وهي ليست بدعة سياسية استولدتها أحزاب بعينها أو استهوتها قوى سياسية أو طائفية أو مذهبية كترف أو حتى كخيار، بل هي قدر يولد كَرَدْ فعل على حالة موضوعية تجلّى فيها الظلم والاستبداد والاحتلال عبر التاريخ، فضلاً عن كونها سيرورة تاريخية تعكس الحاجة الى التغيير والتجديد والتحديث ومقاومة السائد المعرقل لمسيرة التطوّر والتقدم. فالدول والمجتمعات والكيانات السياسية لا تُبنى بدون مقاومة السائد من البُنى القديمة والمفاهيم والرُؤى والمؤسسات القديمة والمعايير المعرقلة لعملية التغيير والتطوير. فالمجتمعات بحاجة إلى مقاومة ثقافية/ وثقافة مقاومة/ وكذلك بناء مجتمع مقاوم ومقاومة مجتمعية… حيث تستند إلى عامل البناء الديمقراطي والتحرّر الاجتماعي، كأساس لبناء الذات في الممارسة التي تستند الى نزعة العمل وتطورها الواعي الخلاّق بما يُكسبها الصُدقية السياسية في دحض سكونها وكسلها وامتلاكها القدرة على النقد والتغيير ومجابهة القوى المحافظة.

وفي التاريخ القديم تجلّت مظاهر المقاومة عند منعطفات تاريخية عديدة.. هي شرف الشعوب تحمله وساما على صدرها، وفي بلدان وكيانات مختلفة؛ فسبارتكوس “ثورة العبيد” قاوم الظلم والاستعباد، والثورة الفرنسية قاومت الظلم ومساوئ الحكم واستلاب الحريات، وقاومت بلاد الشام ومصر الحملات الصليبية، كما قاوم المصريون الحملة الفرنسية والاحتلال البريطاني.. وفي التاريخ المعاصر قاوم الفرنسيون والأوربيون عامة الاحتلال النازي، وقاوم المصريين العدوان الثلاثي الغاشم عام1956، وقاوم “نلسن منديلا” وقاد شعبه في مواجهة العنصرية البغيضة في جنوب إفريقيا،وقاوم الفلسطينيون الغزوة الصهيونية إلى يومنا هذا.. وقاوم اللبنانيون الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان ولا يزالون… إنّنا أمام تاريخ قديم وجديد ومتواصل من المقاومات وأشكالها وطرائق وأساليب عملها…

إن المقاومة حاجة موضوعية تفرضها طبيعة الأخطار التي تواجه الشعوب والأوطان، ولا يوجد مقاومة خارج دائرة الأخطار.. وعليه فهي إفراز طبيعي لمواجهة الأخطار الخارجية والقوى المعادية، وهي، في الوقت ذاته فعل سياسي بامتياز، يتوقف حين تزول الأخطار، ولكنّه يتجدّد بأشكال أخرى من المقاومة في مواجهة الأخطار الداخلية الكامنة في المجتمعات من ظلم واستبداد وغياب الحريات والعدالة الاجتماعية. وكلّما تضاءلت الأخطار الخارجية والداخلية، تمكّن المجتمع وقواه السياسية من بناء الإنسان، وتحقيق رفاهيته وأمنه وعيشه الكريم ليواجه التحدي الحضاري والعلمي للارتقاء. وعليه فإنّ منسوب وشكل المقاومة مرهون أيضاً بمنسوب أسبابها وتمظهرها في الواقع المَعيش من أخطار خارجية وداخلية..

وقد تتقاعس الدول أو الكيانات السياسية في بلدٍ ما عن مواجهة الاحتلال والعدوان الخارجي، الأمر الذي يفسح المجال لمقاومة عفوية وتلقائية شعبية، تتشكّل في الوعي الوطني والديني والتراثي؛ حيث يتجاوز الشعب كيانياته السياسية وسلطته، ويلجأ إلى أشكال المقاومة الذاتية/ الوعي الجنيني للمقاومة/ عبر العودة إلى الجذور والتراث أو التمسّك أكثر بالعادات والتقاليد، والارتداد إلى الموروث التاريخي الوطني والديني، وإبراز هويته الوطنية والدينية في مواجهة هوية الاحتلال والعدوان… في محاولة من الشعب لتمييز نفسه عن الآخر المعتدي… أي أنَّ الشعوب تخلق أنماط مقاومة بغريزتها التلقائية للحفاظ على ذاتها وهويتها، كأن تتمسّك بالدين ومظاهره أو تتمسّك بالزي التراثي والنشاطات التراثية الوطنية والدينية… أو تشكيل جميعات ومؤسسات اجتماعية وفنية تعكس الهوية الوطنية… إلخ

وهكذا تجترح الشعوب في مواجهة الأخطار آليات دفاع ذاتية/ مقاومات شعبية غريزية/ في حال تقاعست كياناتها السياسية، الأمر الذي يشي أنّ المقاومة حاجة موضوعية تقررها طبيعة المرحلة وتفرض أشكالها ووظائفها ومهامها…

طبيعة العدو تؤكد ضرورة المقاومة: وفي الواقع الملموس يتبدّى السؤال المركزي: هل نحن /العرب/ نواجه أخطاراً خارجية…؟ هل نحن أمام عدوان خارجي، أي نحن في حال التحرّر الوطني…؟ هل نحن أمام مخاطر مستقبلية لطبيعة العدو تستدعي المقاومة…؟ أو التأسيس لمقاومات شاملة تواجه الأخطار…؟

من نافل القول إننا نواجه عدواً حقيقيّاً مجسَّداً على الأرض هو “اسرائيل”… ونواجه أخطاراً حقيقية حالية ومستقبلية من العدو الاسرائيلي… كما أننا نواجه أخطاراً جمّة إمبريالية ممثلة بمخططات لتفكيك أوطاننا… وخلق شرق أوسط جديد… أو كبير يستهدف تقويض فكرة الأمّة العربية واقعاً ومفهوماً وهويةً وانتماءً…

وحينما نسلّم أننا أمام عدو ذي طبيعة استئصالية… وأمام مخاطر حقيقة، حيث يصيب مشروعه أوسع من مساحته الجغرافية… يقع في قلب الاستراتيجية الإمبريالية ومشروعها الرأسمالي الاستغلالي لثروات المنطقة العربية كجزء من سياسية النهب الإمبريالية… يجب أن نسلِّم أن الحاجة إلى المقاومة هي حاجة موضوعيّة لمواجهة الأخطار، بل من هذه العوامل تستمد المقاومة مشروعيتها.

إن العدو بطبيعته لا يتحدّد تعسفاً أو اعتباطاً، ولكنّه يتحدّد في الواقع في ضوء السلوك المعادي، وفي ضوء قراءة الاستراتيجيات السياسية، والعسكرية والاقتصادية التي يمارسها الآخر في المنطقة، وهي ممارسات تجسّدت في الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية والعربية، وفي السينورياهات الظاهرة والكامنة في حركته السياسية والأمنية في المنطقة.. فنحن لا نبحث عن عدو، إنّما العدو قائم موضوعياً، فكرةً ومشروعاً على الأرض، وفي السياسة والاقتصاد والثقافة، يتغلغل بين ظهرانينا، وهو ليس لغزاً أو اسطورة، إنّما هو واقع لا تستطيع الدعاية والسياسة الغربية المعادية أن تقلّل من شأنه أو تخلق بديلاً عنه في الذهن العربي..

من هنا لا يمكن تحديد طرق وأشكال المواجهة، من دون المعرفة العلمية الواعية والبعيدة النظر لطبيعة العدو، ليس فقط ككيان مجسّد على الأرض، وإنما كفكرة ومشروع يتبلور ويتحوّل ويتجسّد في كل حين؛ فالعدو واقع مادي، وهو قائم قبل تشكيل دولته، يوم أن كان مشروعاً، ويوم أن كان دولة داخل الدولة، قبل عام 1948، ويوم أن تجسّد خطوة خطوة في سياق تخطيط مركزيّ مستقبليّ واعٍ لطبيعة المراحل التي سيمرُّ بها لتأسيس الكيان. ولعل حديث “هرتسل” بأنّه سيكون أمام كيان إسرائيلي بعد خمسين عاما،ً “أثناء انعقاد مؤتمر بال عام 1897م”، يأتي في إطار الرؤية الواعية، والنظرة الثاقبة، لمستقبل المشروع الصهيوني، مدعوماً بأدوات الفعل الاستعمارية والصهيونية، عسكرياً واقتصادياً.

ولا بد- اليوم- من الإشارة إلى خطورة “الخطة التفصيلية لمستقبل إسرائيل حتى عام 2020” دولة ومجتمعاً وبنية، إذ لا يخفي مخطط “إسرائيل” عام 2020م” أهدافَه وغاياتِه على المدى الطويل، بل يحاول أن يستشعر أيضا كل المخاطر التي تواجه الكيان كاحتمالات، ويضع الحلول الملائمة أو المناسبة لها. كما يشير إلى أن هذه الرؤية لا يمكن أن تتحقق من تلقاء نفسها، إنّما المطلوب هو الإسراع في الأعمال التي يتوجب تنفيذها,، أو الإمتناع عن تنفيذها، وتحديد وسائل التدخل المركزية الموجودة تحت تصرّف الحكومة.

الإيديولوجيا الصهيونية خطر وجودي: مرة أخرى نحن لسنا أمام لغز إسمه “العدو”، أو أسطورة يصعب تحليلها… إنما نحن أمام كيان استعماري بامتياز. ولأنه متقن الصنع امبرياليا، نجد أنفسنا أاننا امام عدو استثنائي، لا كيان طبيعي تاريخي، يقوم على الفكرة والمشروع والخطة والبرنامج، والسياسة، والقوة. وبهذه الأدوات تعيد إسرائيل إنتاج نفسها تبعاً لمقتضيات كل مرحلة تاريخية، و تتغير “إسرائيل” تبعاً لموازين القوى الدولية دون أن يتغير الثابت فيها؛ فالثابت هو المشروع الصهيوني وغاياته وأهدافه في كل المنطقة، والمتحرّك هو عناصر الفعل السياسي، والقوة القادرة على بناء المشروع عبر كل مرحلة من مراحل التدشين والبناء.

فلا بد من إدراك الأهمية الأيديولوجية الصهيونية كمرجعية للسياسة العليا الاسرائيلية، ودورها في إعادة إنتاج الواقع ليناسب الأيديولوجيا، لا العكس. وبالتالي نحن لسنا أمام مشكلة كيان فقط، إنّما أمام مشكلة متجددة وموضوعية تستند إلى استمرار المشروع الصهيوني، واستكمال نفسه بواسطة الأيديولوجيا أولاً والسياسة والخطط التفصيلية أيضا… ممّا يجعل الأيديولوجيا والصهيونية هي المرجعية الحاكمة في السياسة والبناء والصراع مع الأمة العربية، وكل ما نواجهه اليوم من أشكال الصراع ليس إلا تداعيات موضوعية لفعل الأيديولوجيا العنصرية والتوسعية…

صراع مصيري واشتباك تاريخي مفتوح: انطلاقا من الرؤية الواضحة لطبيعة هذا الكيان، فإن وعي تاريخية الصراع وموضوعيته ومرجعيته الأيديولوجية يضع الجدل والنقاش في المسار المنطقي، ويدفعنا إلى التعامل مع الصراع بوصفه صراعاً موضوعياً، واشتباكاً تاريخياً شمولياً على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري بين مجموع الأمّة العربية، والمشروع الصهيوني بكل تجسيداته المادية. وهذا الصراع لا يستهدف فلسطين التاريخية فحسب، بل يستهدف الوجود العربي بذاته أيضًا، فضلا عن إخضاع الأمّة العربية لخدمة المشروع الاستعماري الجديد، وإخراجها من مسارات التطور الطبيعي كما الأمم المتقدمة. لذلك فإن الكلام عن وقفه، عبر المسار التفاوضي قد أكد مرارًا أنه ليس رهنًا بإرادة ذاتية مهما كان سعيها دؤوبا لإنهاء الصراع، بل هو مرهون بإزلة المقدمات التاريخية التي أدت الى وجوده.

والاشتباك التاريخي المفتوح مع العدو الصهيوني هو – في الوقت ذاته – اشتباك مع الإمبريالية ومشاريعها في المنطقة، وإلا فما معنى المباراة بين دول الغرب في الحرص على الأمن الاستراتيجي الاسرائيلي كل يوم؟… وهذا ما يعقّد العملية الصراعية، و يجعل سيرورة أحداث سياسية وعسكرية واقتصادية تتداخل فيها موازين قوى استراتيجية، أوسع من حدود المنطقة العربية… وهنا تتبدّى أهمية المشروع النهضوي العربي الشعبي المقاوم والكامن في الحالة الشعبية والثقافة العربية كرافعة للنهوض العربي في مواجهة مشروع الآخر، وإذا كان المشروع العربيّ القوميّ قد فقد ركائزه السياسية، وأدواته الفاعلة والقائدة، في مرحلة ما فإنه لم يفقد مقوماته الموضوعية، وليس ممكناً هزيمة مشروع استراتيجيٍّ إلا بمشروع مضاد ذي بُعْدٍ استراتيجيٍّ مقاوم.

المقاومة هي الوعي في مواجة التخلّف: إنّ المشروع المعادي الذي قضى دهراً في البحث والدراسة وبما سمي”الاجتياح البحثي” للمنطقة العربية، يهدف إلى تدمير المجتمعات وإسقاطها من الداخل عبر خلق ديناميات التفتيت، وبأسلحة الفتنة بشتى أنواعها، لخلق أرض رخوة مناسبة لتقدمه واستمراره فوقها، وأوّلها إغراق المقاومة في أوحالها، وحشْد منظمات حكومية وأحزاب ودوائر ومؤسسات إعلامية وفكرية وسياسية في سبيل لتحقيق غايته. ولهذا صار وعي المشروع المعادي شكلًا متقدمًا من أشكال المقاومة، لمعرفة العدو معرفة علمية، لا شعاراتية… هو سلاح المعرفة والتقدّم في مواجهة التخلّف والرجعية، تلك الأسلحة التي أفاد العدوّ منها لتفتك في بُنى مجتمعاتنا. إنّ وعي المشروع المعادي يقتضي كشف جوهره، والإلمام بطرق تفكيره، وأساليب وأشكال عدوانه على الأمّة العربية، وعليه فإنّ مقاومة هذا المشروع تقتضي وعي الواقع العربي أيضاً الرسمي والشعبي والاجتماعي والسياسي والنظري والثقافي، لإدراك موقع الأمّة العربية الراهن، وقدرتها على مواجهة التحديات، لتتحدّد، في ضوء ذلك، نقطة البدء في خطّة المواجهة مع مشروع الآخر، لتتأسّس على ذلك أشكال المواجهة الممكنة والمناسبة والفاعلة والواعية.

إن المجتمع العربي يقع في دائرة الأزمة البنيوية العميقة، وهي أزمة متجذرة لها أسبابها المتنوعة، فالقطرية العربية قد أَفْضَت إلى كوارث قوميّة على مستوى الأمّة، لم يسلَم منها قطر واحد، وتحوّلت الأزمة إلى سيرورة أفعال، وممارسات سياسية قطرية، رهنت مستقبل الأمّة للمشروع الاستعماري الجديد، وعمّقت الأزمات الاقتصادية على مستوى القطريات العربية على الرغم من مظاهر الطفرة البترولية في بعض القطريات التي لا تعكس نهوضاً اقتصادياً بقدر ما تعكس تماهياً مع الآخر في مخططاته وتسويق ثقافته في المنطقة.. وهنا تكمن أيضاً الحاجة إلى المقاومة الداخلية بالأشكال المناسبة في مواجهة سياسة القطريات العربية…

قد يبدو للوهلة الأولى من عنوان أشكال المواجهة مع المشروع الإمبريالي الصهيوني، أنّ المواجهة العسكرية والأمنية المباشرة هي المعنيّة والمطلوبة، بيد أنّ الأمر يتسّع ليشمل أشكالاً استراتيجية بنيوية، وأشكالاً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا يمكن إلا أن تتلاقى مع بعضها، وتتزاحم وتتماهى، لتشكّل معاً مضمون المواجهة المطلوبة في سياق رؤية واستراتيجية واضحتين…

المقاومة هي استراتيجية البناء الداخلي: إنّ مفهوم المواجهة – المقاومة، كمفهوم تأسيسي… وبنائي شامل، لا يُختزل في الفعل والدور العملي المباشر الذي يمكن أن تقوم به الجيوش، بمعنى الحرب والعنف، إنّما يتعدّى ذلك إلى الإعداد لما قبل الفعل المباشر “الحرب” أو “الدفاع” فيتّسع إلى دور ووظيفة كل مؤسسات المجمتع الوطنية والمدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثفافية… فقد درجت العادة أن نعلّق العجز على الأنظمة العربية الرسمية، وهذا صحيح بالمعنى النسبي، ولكن العجز مشتق ومبني على عجز آخر هو عجز المجتمع عن التطور والتقدم، وعجز مؤسساته وسلبية دورها، بل إنّ عجز الأنظمة العربية مولود طبيعي للحالة المجتمعية السلبية، التي ساهمت في صناعتها الدكتاتورية العربية، إذ ليس ممكناً استمرار عجز الأنظمة العربية من دون استمرار الحالة الساكنة للمجتمع العربي، وبهتان دوره ومؤسساته، وتشوه بنائه، وانصراف مواطنيه عن الفعل الجماعي المؤطّر بإطارات شعبية وجماهيرية. وإذا كان الدور الفردي مطلوباً ومهماً وضرورياً، فإنّه “لا يؤسس مجتمعاً وطنياً حداثياً ناهضاً قادراً على المقاومة، إنّما الدور المؤسسي والجماعي هو الناظم والرافع لحركة المجمتع الارتقائية”… وهنا يتجلّى دور القوى السياسية الواعية الوطنية في تحفيز عناصر الوحدة والارتقاء الحضاري في الممارسة السياسية والعملية…

إننا معنيون بأن نغيِّر ونجدد بعض المفاهيم، ونعيد ترتيب بعض الأولويات، عبر حراك فكري تصاعدي متواصل، ولا نقع تحت رحمة عامل الزمن الذي يُقاس بجيلنا أو عمرنا، إنّما يجب أن نعمل في سياق الزمن الممتد إلى أجيال قادمة وزمن عمر الشعوب لا الأفراد.

والبحث هو كيفية إنتاج وإعادة إنتاج أمّة بكاملها، أمّة تجاري الأمم وتشكّل في مجموعها عنوان المواجهة… لا أن نبحث عن دور الفرد أو البطل الذي سيأخذ الأمّة إلى حيث أحلامنا، ورغباتنا، فالأمّة تصنع الأبطال، وليس الأبطال من يصنعون الأمم… على الرغم من أهمية الرموز والأبطال في التاريخ… من هنا تبدأ المواجهة في سياق بناء الأمّة التي تواجه الآخر، وعندها يأتي تداعي الأسئلة، كيف نبني الأمّة، المجمتع، الفرد؟ كيف نبني مفهوم الوطنية ومفهوم القومية؟ ما هي أدوات البناء ومعاول البناء؟… إنّنا بحاجة إلى استراتيجية بنائيّة واحدة، ومتعدّدة في آن واحد… لسنا بحاجة إلى طرح إشكالية المواجهة من منظور الفعل ورد الفعل…

إن وضع استراتيجة بنيويّة واحدة، تعني في الوقت نفسه استراتيجية متعدّدة الأشكال، تبدأ من بناء الإنسان العربي، بناء سياسيًا وفكريًّا وثقافيًّا وعلميًّا، بناءً وطنياً عربياً، وإعادة إنتاج الهوية العربية والذات العربية، وتنمية الإحساس بالوجود والانتماء، بناء يقوم على الارتقاء بمستوى الإنسان العربي علماً وثقافةً، وقدرة على التفكير المنهجي والعلمي، كما البناء الأخلاقي القادر على تجاوز كل سلوكيات المجتمع من سياقات الانحطاط والترهل واليأس واللامبالاة، والغرق في الذات الفرديّة المصلحيّة، الأمر الذي يجعل الإنسان العربي أمام وجود حقيقي، وحاملًا أهدافًا وأدوات ووظائف حقيقية في داخل المجتمع العربي.

وتتبدّى في هذا السياق أهمية البناء الوطني والسياسي الذي يضع الأفراد والمجموعات من المواطنين والمؤسسات المدنية والعلمية جميعها في دائرة الفعل الوطني والقومي. وهو بناء لا يقوم على الشعارات العامة والديماغوجيا، واستجرار العواطف والمشاعر الجياشة، إنّما يقوم على إفساح المجال للفكر السياسي الوطني الخلاق الباحث عن الحقيقة، وعن الأسئلة المركزية والمحورية، والحلول الملائمة لإشكاليات المجتمع المختلفة من ضمنها إشكالية مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني…

إن بناء منظمومة متكاملة من المفاهيم الوطنية الخلاقة والمتجددة في سياق أعلى قدر من الحرية والالتزام الوطني، والحرية السياسية والحزبية، وإشاعة الديمقراطية الوطنية في كل مساحات المجتمع العربي، هي طريق مختصر للنهوض بمستوى الوطن والأمة، فالبناء الثقافي في الوقت ذاته يكتسي أهمية مركزية في عملية البناء الشاملة، ذلك أنّ ثمّة مَوروثًا تاريخيًّا وثقافيًّا، من عادات وتقاليد وأفكار وأساطير، لا تزال تشكّل حاجزاً بيننا وبين عملية التجدّد والتطور والحداثة، فلا يزال هناك قدر كبير من اليقينيات الضارة في العقلية العربية الفردية، ولا نزال نؤمن بإطلاقية الفكرة الواحدة، والموقف والرأي الواحد… الذي لا يفسح مجالاً لاحترام فكرة الآخر، أو موقف ورأي الآخر، مما يعوق ويدحض فكرة البناء والتأسيس على ركائز العقل الجماعي، والديمقراطية والحرية، فلا إبداع ولا بعث ولا إختراع من دون حرية، ومن دون جدل وحوار وتفاعل مع الرأي والرأي الآخر…

إن دور المثقفين وأصحاب الفكر والأكاديميين والإعلاميين يحتل المرتبة الأولى في المسؤولية المجتمعية، لخلق الثقافة الوطنية، وتنمية الإحساس بالوجود والانتماء، فروح الأمّة تكمن في ثقافتها وقدرتها على إعادة إنتاجها وتأصيلها. وحين نتحدث عن أزمة المثقف أو الثقافة العربية، فإننا في الواقع نتحدث عن أزمة روح الأمّة وعن تجويف الإنسان العربي من محتواه الوطني والفكري والأخلاقي.

على هذه الرؤية للبناء الشامل، نبني المواجهة، ونضع المجتمع بأسره أمام استحقاق ودور محوريّين وفعالين، لكل مؤسسات المجتمع الوطنية والمدنية والعلمية والثقافية، وأمام ديناميات عمل بنائي مستمرة متعدّدة الأوجه، وموحدة في الأهداف والغايات.

وهكذا نكون قد بنينا الأساس الأول في مشروع المواجهة – المقاومة، لنبدأ في تأسيس المواجهة المباشرة على ركائز مجتمعية صلبة، وبهذا ندحض المشروع الصهيوني بالمشروع الوطني القومي، وهنا أيضاً تتجلّى الهزيمة للآخر ليس عبر الحرب، والمقاومة المسلحة فحسب، إنّما عبر المناعة الداخلية للمجتمع، والسياج البنيوي للأنسان العربي أيضا. وبهذا المعنى تبدو المواجهة مباراة موضوعية وتاريخية كما الصراع موضوعي وتاريخي.

قد يتساءل البعض: هل علينا الانتظار حتى نستعيد ونؤسس المجتمع القادر على المواجهة..؟ وهل تسمح معطيات الواقع العربي إيجاد آليات عمل بنائية؟ وهل الآخر في ضوء خططه وبرامجه وسياساته واستراتيجياته لا يعي أهمية الزمن، واستثماره في ضوء الفراغ العربي؟

الشىء الطبيعي أن لا نُمكّن الآخر من أن يَنفَذ إلى فراغنا، أو يستثمر زمننا العاثر، وأن لا ننتظر إكمال المشروع البنيوي للمواجهة الشاملة.. إنّما الواقع يحتم على القوى والأحزاب الوطنية الشعبية والمقاومة أن تكون جزءاً من المواجهة المباشرة بالتوازي مع المواجهة البنائية.

المقاومة فعل دفاعيّ لمنع العدوّ من تحقيق أهدافه: إن مقاومة المشروع الأمريكي الإسرائيليّ هي عملية ثورية سلاحها الإرادة الوطنية، ومضمونها رفض كل أشكال الإذعان لمفاهيم التسويات والتقاطعات مع الآخر، للنيل من الحقوق الوطنية العربية والفلسطينية، ورفض سياسة التطبيع بكافة أشكالها الثقافية والاقتصادية والسياسية، ورفض طروحات الغرب الاستعماري التي تستهدف المواطن العربي في إنتمائه وعروبته وثقافته، لإفقاده هويته وتراثه وتاريخه عبر سياسات واستراتيجيات لا تزال تُلقى في الساحة العربية “الشرق الأوسط الكبير والجديد… إلخ”. ويجب أن تتحوّل الممانعة إلى حاله شمولية متزايدة بإتجاه التأطير الشعبي، وتشمل مختلف الشرائح الاجتماعية في المجتمعات العربية، لتحدّد أهدافها، ووسائل فعلها ونشاطها ودورها المباشر، ويتبدّى دور الفعاليات الفكرية والثقافية والسياسية العربية، كدور محوريّ لتحريك الجبهة الثقافية، والاجتماعية والإعلامية، وفي إثارة الأسئلة الجوهرية والأساسية التي ترتبط بالصراع الموضوعي، لا التي ترتبط بالحدث اليومي الغارق في الفعل وردّ الفعل فحسب؛ فالتسويات السياسية التي أُبرمت منذ كامب ديفيد ومدريد وأوسلو حتّى اليوم، لم تحقق حتى اللحظة، على الرغم من كل الجهود المبذولة والضغوط المتواصلة على الطرف العربي والفلسطيني، أي سلام أو تسويات يتحقّق فيها الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية والعربية. إنّ الاستغراق في الاسئلة المرتبطة بالحدث اليومي، والضغط نحو الاعتراف بالواقع ليس إلّا إزاحةً مؤقتة عن النظر في تاريخية الصراع وديمومته الموضوعية.

المقاومة عنف ثوري في مواجهة العنف الهمجي: وبالتوازي مع الممانعة، فإنّ المقاومة المسلحة كفعل عسكريّ واعٍ ومنظم ، هي في الواقع فعل سياسيّ ومعنويّ، وشكل رئيس من أشكال المقاومة العُنفية الثورية ، ولا يتجسّد إلا بإعلاء واستخدام القوة المادية المتوفرة في أشكالها المختلفة، وهو شكل يمثل إمتحاناً للإرادة الصلبة ودورها الفعال في المواجهة في ضوء ميزان القوى المادي المنحاز لصالح العدو الصهيوني، وأساليبه العنفية الوحشية الذي يمارسها مباشرة او بالنيابة! إن مواجهة القوة الإسرائيلية، وجبروتها العسكري والمادي أمر في غاية الأهمية، وبالغ الدلالة لجهة ردع العدوان وإفشال مخططاته؛ فإن لم يدرك الاحتلال ويشعر بعبء احتلاله على مستوى خسائرة البشرية والمادية والمعنوية، فسيبقى متجاسراً على خوض غِمار حروبه وعداواته المستمرة، ولنا مثل في الكيفية التي واجهت بها المقاومة اللبنانية الإسلامية العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، وكيف خرج الاحتلال مندحراً ومثقلاً بعبء حربه السياسية – مادياً وبشرياً ومعنوياً، وهذا ما أكّدته لجنة فينوغراد منذ البداية، وقد تقلّصت خيارات العدو وضاعت هيبة جيشه وقياداته التي طالما تباهى بكفاءتها وقدراتها.

إن الاستهتار باستخدام القوة المسلّحة في مواجهة العدو تحت منطق أن الحروب لا تصنع سلاماً، ولا نصرا، ولا تحقق حلولاً او تستعيد حقوقا، قد يندرج في سياق انعدام الوعي الإستراتيجي لدور القوة في صنع الواقع الجيوسياسيّ، والجيواستراتيجيّ، او العجز عن ممارسة الفعل الجديّ ، لأن إسقاط خيار القوة هو خيار ليس له مرجعية منطقية سياسية أو فكرية، بل مرجعية معنوية يائسة، فقدت الإرادة جرّاء تَشكُّل حالة وبيئة يائسة فقدت روحها وجسدها.

جدل الفكر السياسيّ مع المقاومة: في إطار موضوعيّة الصراع وتاريخيته تتبدّى أهمية دور ووظيفة الفكر السياسيّ السليم والمتجدّد الذي يصنع الإنجازات المرحلية، ويؤسّس لإنجازات استراتيجية. فالفكر السياسي إمّا أن يبقى شعارات جامدة، لا يرى الجديد، ويكرر الشعارت المرحلية السابقة من دون فحص صوابيتها ومقاربتها مع الجديد في المرحلة، وإمّا أن يحدد في الرؤى والشعارات والبدائل والممارسة التكتيكية لجهة درء الأخطار المحيطة، وتقريب مسافة تحقيق الأهداف، بحيث تتحدّد الخيارات السياسية ارتباطاً بالرؤى الاستراتيجية التي تحكم عملية الصراع.

وعلى هذه القاعدة فكل فكر سياسي سليم هو شكل نضالي إبداعي يخدم ويخلق ديناميات وعوامل المجابهة المفتوحة بشكل أفضل، ولعل افتقاد النظام العربي الرسمي، ومعه النظام الفلسطيني لفكر سياسي يجمع بين التكتيك والأهداف الاستراتيجية، وفكر متجدّد وخلاق يحافظ على الثوابت، ويطوّر التكتيك، قد أضعف قدرة المواجهة والمقاومة، وتحوّل الفكر السياسي إلى رغبات وأوهام وقراءات خاطئة للواقع ومحتوى المراحل السياسية، وموازين القوى الدولية… ممّا عرض الاستراتيجيا بشكل مستمر للانتهاك والتدمير، في ظل غياب الإرادة الواعية للنظام العربي الرسمي.

المقاومة ذهنية تحرُّر وتغيير أم ذهنية تحريم؟ حينما تستند المقاومة الى ذهنية التغيير كوعي ثوري يتخذ من التجارب الوطنية والتحرّرية التي شكّلت صيغة الجبهة الوطنية العريضة أداتها الموحدة على المستوى الوطني أولا، وعلى المستوى القوميّ ثانيا، حتى الجبهة الأمميّة ثالثا، في مواجهة الوحش الإمبرياليّ الذي يهدد البشرية جمعاء، في سبيل حرية مطلقة قائمة على العدالة والسلام الحقيقين للعالم ، اي أنها ارتبطت بفكرة التغيير الاجتماعي باعتبارها جزءًا من حركة تطوير المجتمع، لم تغرق في أحابيل السلطة التي تفقدها أدوات الفعل الكفاحي، وتدجّن فعلها المقاوِم لمصلحة إغراءات السلطة. ذهنية التحرر لا يمكن أن تكون إاقصائية ، تتفرّد بالقرار ، فتهدر الطاقات الوطنية التي لديها مصلحة بالثورة والفعل المقاوم، لذا ترتبط بكتلة تاريخية تحشد القوى السياسية والشعبية المناضلة، صخرة مقاومة أمام المستعمر والاحتلال، وأمام الكولونيالات التاريخية التي عملت على احتلال الدول والكيانات والشعوب… ففي مواجهة المحتل تظهر أهمية الوحدة حول المقاومة، وأساليبها وأشكالها وأهدافها المرحلية والإستراتيجية، ممّا يخلق سياجاً شعبياً ومادياً هائلاً أمام محاولات الإمبريالية لإجراء تواطؤ تاريخي مع ذهنية التحريم كقاعدة لذهنية الفتنة من خلال إحلال فكرة نهج سلطوي للسيطرة على المجتمع تحت مسمى “التمكين”، يستخدمها فقط لغرض اختراق جسم المجتمع، وتدمير نسيجه والإمساك بروح المقاومة وقلبها، وعلى اختراق البيئة المجتمعية ثقافياً وسياسياً وإعلامياً. فالمدخل الأهم والأساس للعدوان الإمبريالي، والاحتلالي يبدأ بمحاولات تشطير الوحدة والوطن، والشعب والنظام والقوى، لتتحول إلى شظايا وتجمّعات لا يجمعها جامع أو هدف… ممّا يسهِّل على الاحتلال أن يحقق أهدافه.. ذلك ما حصل في أفغانستان والعراق، وأخيراً في فلسطين… واليوم يحاولون في سوريا…

المقاومة ذهنية تحرير أم ذهنية تكفير؟ ولعل ما يحصل اليوم في فلسطين يدلّ إلى حدٍ كبير وبما لا يدع مجالاً للشك على أنّ العدوان يتسع نطاق عدوانه مع كل عملية تفكك سياسيّ، واجتماعيّ في البنية الكفاحية أو المجتمعية؛ فـ”إسرائيل” اليوم توسّع عدوانها على غزة استثماراً للانقسام الفلسطيني، فهي التي رأيناها مستفردة بقطاع غزة تحت دعاوى “الإرهاب” التي تلصق بفريق يحكم غزة عندما كانت في قلب المواجهة العنفية. ويظهر هنا بشكل يدعو إلى الريبة في أن التقاطع في المصالح سواء في منع تحقيق المصالحة أم الحفاظ على الوضع القائم كوضع مناسب وصالح لجهات عدة! ربما تكون متصارعة بالشكل لكنها متفقة بالمضمون. وقد باتت تطرح أسئلة جدية عن سلوك يحكم الحقل السياسي بجناحيه، وإنْ اختلفت وتبدلت غاية كل من طرفيْ السلطة الفلسطينية فيه، سواء أكان في غزة من جهة أم في رام الله من جهة أخرى؛ فالحقيقة الأكثر ظهورا هي أنّ مسألة التحرير صارت هي القضية الغائبة في خضم الأمواج العربية المتلاطمة من حولنا، وغدا كل فعل مسلح عبارة عن بدعة محرمه وممنوعه إنْ كانت ستؤدي الى تهديد الوضع القائم. والكوميديا السوداء هي أنّه لا بأس إن كانت المقاومة سلمية فقط، شريطة ان لا تزعج العدو!!!! والسخرية أنه يجري فعل ذلك باسم المشروع الوطنيّ، وحفاظا على المصلحة الوطنية، التي ليست أكثر من سلطة هزيلة على مقاس المصالح الفئوية التي ينعم بها أهلها. كذلك من وصل إلى السلطة لا لخلفيته الأيدولوجية الدينية، بل لأنه يمارس المقاومة كإرادة تحرير، صار يعتبرها محاولات تخريبية على استقرار وأمن سلطته، باعتباره رمزها الذي يمارسها، ومالكها الحصريّ، وأنَّ تاريخها يبدأ من عنده وحده. والجميع يدرك أنَّ القضية الفلسطينية تدفع ثمنا باهظا جراء هذا الوضع، بل لقد تحوّل الانقسام إلى عملية إضعاف للمجمتع الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، بل للمفاوض الفلسطيني الذي يتقدم إلى حلبة المفاوضات بخطى مرتجفة، غير واثق من خياره، محاولاً معاندة الواقع والمعطيات السياسية والميدانية، متجاهلاً أهمية الوحدة الوطنية حتى في التفاوض، الوحدة التي تشكّل عامل قوة وعنصراً من عناصرها، وثقلاً سياسياً ومعنوياً واجتماعياً في ميزان القوى القائم، وفي يد المفاوض الذي يرتكز على ميزان قوى.

إن حجرا في المياه الراكدة صار أمرا ملحا لإطلاق حراك فكريّ جدّيّ وفعّال نحو تأصيل وتحديث “نظرية المقاومة”، في سبيل تحفيز عناصر الإجماع الفلسطيني والعربي الذي يشكل فعلا من المقاومة، وتحفيز عناصر تفكيك الإجماع الإسرائيلي هو شكل آخر للمقاومة لإضعاف الخصم سياسياً ومعنوياً…

* عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

مقالات ذات صلة