المقالات

غبـار المصالحـة بين المشاركة والإقصاء

غبـار المصالحـة بين المشاركة والإقصاء

بقلم بكر ابو بكر

27-02-2013

خاص مجلة القدس/ أصبحت المصالحة همّاً يومياً تعاظم في وجه الفلسطينيين، بل والعرب، حتى أنه سد الأفق الرحب أمامهم فحجب الرؤيا ، وقصّر النظر، وتحولت المصالحة لدى البعض من سعي جاد إلى ربابة يعزف عليها، أو مسرح يلتقي فيه الممثلون ليعرضوا مسرحيتهم المكررة، فالأدوار أصبحت واضحة ولا تحتاج لمنجّم يقرأ الفنجان أو يطلّ علينا من عرشه في الرائي ( التلفزة ) ليتنبأ لنا بمستقبل هو أسود كما سواد الانقسام أو الانقلاب أو اسم الدلع له “الحسم العسكري”.

تحولت معضلة المصالحة من ” صرارة “إلى جبل، ومن “مزراب” ينز من ماء المطر إلى نهر جار بل أصبحت (أيقونة) أو معلما بارزا من معالم التراث الفلسطيني أو التاريخ الفلسطيني المعاصر، فكما يشار للحطة والثوب والزيتون والفلافل وياسر عرفات وبحر غزة كرموز وطنية متجذرة أصبحنا نضيف اليوم المصالحة كرمز وطني، نسعى له وأنّى لنا أن نحققه.

حجب الرؤية والراحة

عندما تحجب الرؤية أو الرؤيا سيّان فإن الغبار قد يكون السبب أو أن معيقاً طبيعياً مثل الجبال أوالوديان أو الحدود أو البحار تمنعنا من النظر، ولكن أن يكون عانق النظر ذاتياً فإن العلّة تكون في الإرادة الصامتة أو المسلوبة تلك التي تنصاع لحكم المطلق أو المقدس أو الفكر المغلق الذي يتلقى علومه من لدن الرحمان-كما يظن- فلا معقب لها، أو يتلقاها من ضغط مصالحه الذاتية أو الحزبية أوالتنظيمية على حساب هموم الأمة ومشاغل الوطن ومصالح القضية.

القضية الفلسطينية كانت – ويجب أن تظل- عامل وحدة داخلية، وعامل وحدة عربية. وكلما تشظت أو تشظى من حولها القادة كلما نفر العرب من جهة، واستاء الفلسطينيون أو اغتاظوا أو تألموا، وربما يثورون لأن التراث والفكر والتاريخ الفلسطيني الذي عاش التصدّعات يدرك خطورة استمرار الانقلاب أو الانقسام في صفوفه على تحقيق الأهداف.

وإذ يدرك الفلسطينيون أن قضيتهم تحتاج لقطار عربي فكيف يكون الحال والقاطرة الفلسطينية خرجت عن “سكة ” القطار ، ومازالت تحت التصليح.

مازال مربع الانقسام الأسود مريحاً للعديد من كل الأطراف، هل نقول لدى جهتى الصراع أم نقول لدى بعض المستفيدين في حركة فتح أم لدى الآخرين في حماس؟ نعتقد أن الشعب الفلسطيني ليس أعمى أبداً وهو قد شبّ عن الطوق منذ أزاح عز الدين القسام العصابة عن عينيه وجعله يرى طريق الثورة بوضوح، بل قبل ذلك من أيام الثائر الوطني ظاهر العمر الزيداني.

بين تياري الإقصاء، والمشاركة

لا نحتاج لوصفات سياسية للحل، فالطرفان أي حركة فتح وفصائل (م.ت .ف) من جهة، وحماس لا يختلفان سياسيا أبداً، ففي حين وعت حماس طبيعة المرحلة ولحقت بأهداف الحركة الوطنية (م.ت.ف) متأخرة، وكما لحقت السلطة متأخرة، وقبلها لحقت العمل المقاوم متأخرة، فإنها في حقيقة الأمر تصارع داخليا في اتجاهين فكريين :الأول يصارع على المشاركة في ادارة دفة القضية عبر المنظمة والسلطة ما هو حق لها ولغيرها، والطرف الثاني في حماس يضغط للاستيلاء كليا على المنظمة والسلطة، والفرق كبير بين المشاركة والاستيلاء، مابين الفكر الديمقراطي والفكر الاقصائي الذي يتوهم أنه يحكم أو سيحكم بنور الله الذي تستضيء به وجوههم لوحدهم دون خلق الله.

كما لا نبتعد كثيراً إذا قلنا أن تيار ضيق الأفق في أطر (م.ت .ف) لا يرى ضرورة بإشراك حماس والجهاد في المنظمة، ويرى قفل الأبواب في وجهها لا سيما أن الانقلاب الدموي مازالت رائحته النتنة تزكم الأنوف .

إن تيارَي المصالح والإقصاء يتواجهان مع تياري المشاركة والديمقراطية في النظام السياسي الفلسطيني، ما يعني أن القضية الوطنية وفي أحشائها اليوم لغم المصالحة وغبار المصالحة ومزالق المصالحة حيث لا يمكن أن تخرج من عباءة الجدل والجدل المقابل الا بتحرير العقول وتحرير آليات التقبل والتفهم والاعتراف بالآخر والمشاركة بعيداً عن “عبط” ادعاءات احتكار الصواب أو الإسلام أو التاريخ الوطني لهذا الفصيل أو ذاك، وفي كل الأحوال فإن الشعب الفلسطيني المبتلي بقيادته لن يسكت طويلاً .

“فتح” أم الديمقراطية و”كهف أفلاطون”

لقد علّمت حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح العالم معنى الديمقراطية والتعددية في زمن كانت فيه الفكرانية (الايدولوجية) طاغية بمفهومها الضيق الذي يستبدل الحزب بالأمة، حيث قال فيها الباحث اللبناني مسعود المولى مؤخرا (إن الشيء المميز في حركة فتح وسر نجاحاتها هي تلك التعددية التي لم يسبق أن عرفت أي تجربة ثورية عالمية مثيلاً لها).

مضيفاً (لقد كانت فتح تتقدم في قيادتها للشعب الفلسطيني وفقا لمحصلة:أي خروج محصلة عامة من خلال تصارع عدة آراء واتجاهات في داخلها وخارجها) ما نتمنى أن يظل سمة حركة فتح وتعكسه حكماً على فصائل (أو تيارات في الفصائل) الحقيقة التي لا تعترف أبداً بالخطأ فما بالك بالخطيئة رغم عيشها الهنيء في “كهف أفلاطون”.

إن الرؤية الشفافة في سياق الإيمان بالتعددية وإمكانية وجود الصواب أو بعض الصواب عند الآخر ما ميز علماء المسلمين، والمتنورين في العالم، وما يميز تجربة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح الثورية يصطدم بعقلية الستينيات من القرن العشرين وما قبلها ذات الطابع قطعيّ الدلالة اجتماعياً وفكرياً ونفسياً بمعنى أنني المصيب دوما لأن ثقافتي وفكري وتربيتي “الربانية” أو الفكرانية الحصرية تعني حصانتي دون غيري ما يجعلني أرمي المخالف بكل نقيصة وصولاً للتخوين والتكفير .

التحرر من الفكر المغترّ

إن التخلص والتحرر من الفكر المغتر بذاته، المؤلّه لمنطوق قياداته المتسامي على جراح الجماهير، الرافض للآخر المتعدد الأوجه، الساعي “للتمكين” لعصبته ، الطامح للاستيلاء على السلطة والحكم بافتراض امتلاكه دون غيره لمنابع الحكمة والصواب والقداسة يمثل تعاملا مع حالة نفسية ثقافية تربوية فكرية إن لم نتخلص منها سيظل الإسرائيليون يطربون على وقع خلافاتنا المستحكمة ومصالحتنا النازفة، كما سيظل العرب يقيمون المآدب والولائم باسم فلسطين دون حضورها ، ويطعنونها من الخلف بسيوف الباطل واليد الممدودة لبعض الفلسطينيين دون غيرهم من جهة، وللإسرائيليين من جهة أخرى في علاقات سياسية واقتصادية تتحدى القضية الفلسطينية وتضع على قلوب هؤلاء الأقفال الثقال، وتحثو التراب والغبار في وجوهنا جميعاً.

إلى كم عام نحتاج ؟ والى كم شهيد نحتاج؟ والى كم عاصمة عربية نحتاج؟ والى كم ورقة ومقال وبحث ومناشدة نحتاج؟ والى كم قلم أو سيف نحتاج؟ والى كم حنجرة ومصداح نحتاج؟ والى كم فاسد وانتهازي وناطق باسم الله كذبا… الخ نحتاج؟ حتى نستطيع أن نطوي سِفر وليس صفحة الانقلاب والانقسام الأسود وتحقيق المصالحة؟ المصالحة المجتمعية والمصالحة النفسية والمصالحة الفكرية والمصالحة التربوية والمصالحة الديمقراطية… لأن شأن المصالحة السياسية هين.

شعب لا يهزل

إن الشعب الفلسطيني المعطاء والمدرك للوقائع لا تعميه العواصف الرملية، ولا تنطلي عليه ادعاءات المنافقين أو الخوارج أوالحشاشين، وهو شعب لا يهزل أبداً، فالشعب المكافح لعشرات السنين ان لم يكن أكثر شعب جاد في العالم فهو ذو وعي عميق و عزيمة لا تلين، وهو بذلك لن يقبل ( أيقونة) جديدة تصطف قسرا إلى جوار معالم فلسطين الرائعة ، فلا يمكن للفاسد من حوادث الزمن ممثلاً بالانقلاب والانقسام أن يكون كذلك ، وصبرهذا الشعب بالتأكيد لن يطول، وله القرار .

بقلم /بكر ابو بكر

مقالات ذات صلة