المقالات

أبو علي مصطفى القائد الذي نحتاج- الأستاذ مروان عبد العال

المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بيروت، لبنان- فتحي أبو علي

28-08-2020

كي لا نفقد تلك الروح التي جعلتنا مميزين عمن حولنا.

لنكن غير أولئك المنكبين على تحويل الذكرى إلى بكائية، بل إلى الذين تشدهم دروس الذكرى ومعناها، قادرين على تجاوز الخسارة، فالذكرى هي اللحظة الحاسمة للتفكير بأننا مستعدون لسد الفراغ الذي تركه هذا الفقدان الوطني والجبهاوي لقائد بحجم أبي علي مصطفى. الشهادة التي تفتح لنا الباب على مصراعيه لمواصلة طريق عمدها بالوعي والقيم والتجربة، كما الدماء الزكية، وليمنحنا قوة للاستمرار من أجل ما أراده وما يحب أن يراه فينا.

أبوعلي مصطفى كان قائدًا ليس في انتخابه بل بثقافته وسلوكه، شجاعته وبساطته، بتواضعه وتسامحه، قائدًا معتدًا بنفسه وكرامته ومكانته، صنعه الزمن الصعب قبل صناديق الاقتراع وعدد الأصوات. ابن الزمن الحقيقي وليس الكاذب، الزمن الشاق وليس المريح، ومن القادة الذين جعلوا الزمن الصعب حين نستذكره زمنًا جميلًا.

كلما كان الزمن صعبًا يجعل عدونا أكثر قسوة وعدوانية ووحشية، يرتفع منسوب اليأس والخوف والتوقع، تسود ثقافة الاستسلام للواقع أو التنكر له، او من يقوم بإحراق المراكب لكي لا يتيح للآخرين ركوبها. هذه الأزمنة تلد ايضًا رجالها بأسماء وأوصاف يمثلون فكرة الوعي، والوطن، والبطولة، والشجاعة، الشعور بالمسؤولية، والجسارة. أبطال أنجبتهم الأزمنة الصعبة وطريقة مواجهتها والرد عليها بين مفهومي البطولة والمجازفة الثورية، أو الشجاعة والتضحية. كان عطاء هؤلاء جليلاً، يوم عاكسوا الزمن المُر كأسماكٍ حيّة وليس كالأسماك الميّتة، تعاند قوة التيار ولا تنجرف فيه. فتى من “عرابة” يدخل النضال مبكراً، على وقع وجع النكبة، ومبكراً انتمى للنضال وهو في 15 من عمره، ويدخل السجن وهو 19 من عمره، مبكراً يثقف ذاته لتكون سنوات السجن جامعته المعرفية الأولى، مبكراً تسلم العمل الخاص في الضفة، ثم تأسيس الأنوية الأولى لبنية المقاومة في الوطن المحتل. رجل القيادة الخلفية، الظل والنائب والأمين العام. تعرض لأكثر من محاولة اغتيال من الضفة إلى الأردن إلى بيروت. المقاوم العائد ليقاوم، مقاوم من المهد إلى اللحد. يعتبر أن كل الأعمال الثورية هي مجازفات ثورية، وما يمكن أن تفعله أن تترك درسًا للأجيال ربما تستنطق فيه التاريخ.

أبو علي مصطفى نموذج القيادة الحقيقية التي نحتاج، يظل تلميذا مهما تعلم وجندياً مهما قاتل، يولد من نهوض الفعل المنظم و الجماعي، وليس العمل الأحادي ذات الشخص الواحد، لأن القيادة بالنسبة له ليست فرامانتات أو هواية لتقطيع الوقت أو تمضية ما تبقى من العمر، ولا هي مهنة أو ميزة شخصية، إنما وظيفة ومسؤولية وكلفة ومؤسسة قيادية.

مستمع جيد لمن عرفه عن قرب، لا يميّز بين رفيق وآخر، يحب من يضيف له فكرة، فيسحب دفتره الصغير من درج الطاولة ويسجلها من دون تعليق فوري.لا يسبق لسانه عقله، فريق عمله يعمل بانضباط وبدقة عقارب الساعة. قائد استثنائي تجده في المنعطفات الحادة، لا يتلهى بالتفاصيل والهوامش ويضيع بالحواشي وينسى الأولويات، لا يدع أحداً يلعب بجدول أعماله، يكره التفاهة والتافهين حتى العظم، يكتشف الغث من السمين من أول نظرة أو كلمة او فكره؛ يفكر ويناقش بعمق مع كل الذين يتولى قيادتهم، يستجلي كل مواطن الضعف ويعمل للقضاء عليها و يكتشف نقاط القوة ويعمل على تنميتها. دائما يردد، إن شعبنا جدير بقيادة كفؤة ويستحق أن تكون بمستوى تضحياته وطموحاته، يمتلك جدّيّة وهيبة القيادة، ومن يرتكب تقصير تنظيمي ما يخشى أن يعلم به أبو علي، كما تكتشف عن قرب كم يتحلى بالإنسانية والأخلاق الطيبة وروح الدعابة أحيانا.

عشية اتفاقات أوسلو أو الكارثة الوطنية الكبرى كما سماها، اشتغل كثيرًا على مراجعة أسباب الكارثة والمسؤولية عنها، وما ستلحقه من تشويه للقضية الفلسطينية، لكن في الوقت نفسه لم يتوقف عن البحث في مقدمات الأزمة الوطنية، ومنها أزمة القيادة إلى جانب الحقائق المغيّبة، وهي عناصر القوة والضعف المسكوت عنها، البنى التنظيمية للجبهة كما للمعارضة يسارًا ويمينًا، والنهج التسووي وأزمة قيادة المشروع الوطني الفلسطيني عامة، مدركًا أن انتقال مركز النضال الوطني للداخل، ألحت أن يكون هناك، ليكون مؤثراً في مركز القرار الوطني، مستندًا إلى خبرة الثورة في لبنان، خشية أن تعيد القيادة في رام الله تجربة الفاكهاني، ولا ترى إلا بمساحة موضع أقدامها، فلا يقصي الداخل الخارج، كما حصل سابقًا وأقصي الداخل، وكونه يحمل في تجربته تلك الثنائيات المتصالحة بين الوطني والقومي والتحرري والديمقراطي، والأهم صلته بين الداخل والخارج. عناصر قوة منحته قوة أعلى من غيره، واعتقد في قرارة نفسه أن معادلة زمن أوسلو قد تقتله لكن لن تأسره. نموذج فذ لقائد اجتاز الأزمنة الصعبة، وغرس في التربة بذور التجربة لعلها تنبت قيادة مثيلة لهذا الزمن الصعب.

أولا: تؤمن بقوة التجدد، وأن عناصر البناء القوة الحية بمشاركة الجيل الجديد، تدافع وتواصل بين الأجيال، حيث يتحول إلى تدافع إيجابي عبر مصالحة وإصلاح الذات من خلال بناء وتطوير، وتجديد أدواتها، وتحديث برامجها، وفعلها المقاوم على الأرض، وتنشيط لحياتها الداخلية ورفد هيئاتها بالدماء الشابة، وليس في إعادة استنساخ القديم وحده.

ثانياً: تؤمن بقوة الحق، وقادرة على إعادة الاعتبار للوطنية الفلسطينية. الحق بمثابة الهدف الاستراتيجي وغايتنا النبيلة، هو الحق المطلق في فلسطين وأن فلسطين من النهر إلى البحر، والتكتيك الذي تُمليه تعقيدات الواقع وضرورات الصراع ، وحتى الهدف المرحلي شرطه أن لا ينتهك هذا الحق التاريخي والهدف الاستراتيجي، أو يكون على حسابه، وأي مراجعة موضوعية ندرك أن خط التسوية نهايته التصفية، وأن أوسلو نهايته صفقة القرن.

ثالثاً : تؤمن بقوة الوحدة التي أرادها أبو علي مصطفى بمضمونها وليس شكلها، وبعدها الوطني والتحرري وليس محاصصة فصائلية ، الذي سينتهي إلى ذهنية سلطوية، تتحول فيها غاية الوحدة إلى فعل تكتيكي. الوحدة تعني التعددية توحد وتحمي الشعب الفلسطيني بجميع أماكن تواجده، أما صيرورة التآكل الذاتي فمآلها إلى تلاشي الهوية، وتشتيت شتات اللاجئين تمهيدًا لتصفية حق العودة .

رابعًا: قوة الشخصية الوطنية، والحفاظ عليها ليس مجرد شعار هروبي إلى الأمام أو الوراء، بل رؤية متماسكة أساسها منظمة التحرير الفلسطينية، كمنجز وطني، وكل تفريط به هو خدمة لمخطط التصفية. كان يصفها أبو علي أنها مثل خيط المسبحة، إذا انقطع انفرطت باقي الحبات وتناثرت، ويدرك أنها بوضع حرج ودخلت العناية الفائقة غير أن هناك حاجة لوجودها وإعادة الروح لها بوصفها ” الوطن المعنوي” وخاصة لمن يفقدون ” الوطن المادي “، المهمة أن نستعيدها كجبهة وطنية ومرجعية وطنية جامعة. فشلت السلطة كمدخل للدولة، وهذا كان وهماً خرافياً وحلماً لم يتحقق، ووجودها تكتيكي استخدم كي لا يكون على طريق الدولة، بل أقرب ما يكون عن كيانات أو باندوستانات ومعازل الفصل العنصري، لكن المنظمة عكس ذلك تماما، حين تكون الوعاء الأشمل، وبجوهرها التشاركي والديمقراطي، ولمضمونها الاستراتيجي والتحرري ارتباطا بأصل الصراع .

خامساً: قوة موضوعية الصراع، من يريد إنهاء الصراع يسعى إلى عزل القضية الفلسطينية، عبر خلعها من محيطها العربي وعبر التطبيع والتطبيل او الدعوة للخروج من الصراع تحت مسمى الحياد. ندرك أن الصراع موضوعي ولم يكن يوما قضية ذاتية ندخل فيه أو نخرج منه وقتما نشاء، وكل ما يجري من فتن خلاقة وضغوط اقتصادية واجتماعية واستخدام الظروف الإنسانية الصعبة هو لخدمة هذا الهدف، لكن مساحة الصراع أوسع من فلسطين، هي قلب الصراع وطليعته، ولكنها مسؤوله عن صياغته. نحن أحوج ما نكون لطاقات الأمة وللحلفاء والأصدقاء، ولكن قبل كل شيء لرؤية وأدوات ومؤسسة جامعة وقيادة للزمن الصعب، من طراز الذين يستحيل قتلهم، لأنهم من معدن أبي علي مصطفى.

وأختم بقول الشاعر بابلو نيرودا: “لكم أن تقطفوا كل الأزهار.. وتبيدوا جميع الورود.. لكنكم لا تستطيعون إيقاف الربيع”.

 

مقالات ذات صلة