المقالات

أبو ماهر اليماني || مثل صبّار الوعر

أبو ماهر اليماني: مثل صبّار الوعر

في أوائل سبعينيات القرن العشرين، حينما بدأ وعينا النقدي يتبلور مع صعود الكفاح المسلح الفلسطيني، كان أبو ماهر اليماني يشد انتباهنا كقائد لامع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومكافح مشهود له في حركة القوميين العرب، وعضو مشاكس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع هذا تأخرت معرفتي المباشرة به حتى أوائل سنة 1974 على الأرجح، عندما كان السجال السياسي الصاخب قد بلغ مداه في تلك الحقبة بين فكرة الدولة الفلسطينية على الضفة والقطاع، وأنصار تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني؛ وجرى اللقاء، عفوياً، قبالة جامعة بيروت العربية. كان أحمد اليماني يسير في تلك المنطقة ماشياً بلا حراسة أو مرافقين، فتحلقنا حوله، نحن مجموعة من الشبان الرافضين الناقمين، وتحدثنا في فكرة الدولة الفلسطينية. وأتذكر أنني دُهشت كيف أن هذا القائد يمشي وحده، هكذا مثلنا نحن، بينما كان مَن هو أدنى منه منزلة بكثير لا يرتضي أقل من أربعة مرافقين.

هذا هو أبو ماهر اليماني الذي كان لا يأوي إلى منزله قبل أن يجوس في أزقة المخيم ليباغت مَن ما زال من تلامذته يتسكع لاهياً كاسلاً عن فروضه فيقرعه تقريعاً. وكم شوهد وهو يطرق أبواب المنازل في الليل ليطمئن هل أن طلابه يذاكرون دروسهم حقاً، وأنهم ما ناموا قبل أن ينجزوا فروضهم.

عاش عمره كله كأنه ما زال واقفاً، في كل يوم، عند مفرق البقيعة وحرفيش يجول بخياله المتألم في أرجاء ذلك الجمال الباهر الممتد بين ترشيحا ودير القاسي وكفر سميع وبيت جن حتى فسوطة ومعليا والرامة ويانوح والجاعونة والصفصاف. لم يرتحل أبو ماهر من سحماتا البتة؛ فهو حين يسترسل في مجالسه في وصف منزله القائم على أربع قناطر حجرية تحمل سقفاً من الخشب الوعري الذي تعلوه طبقة من التراب كأنه يؤكد أنه ما زال هناك.

* * *

من ذاكرة تلك البقاع الخضر كان أبو ماهر يغرف حكايات الفقر والعذاب، ويغزل بالكلام صور المعاناة والأرجل الحافية وسني الشقاء.

إنه الفقر الذي ما زال محفوراً في ذاكرة أحمد اليماني كالوشم الدامي. وأحمد اليماني الذي تعلم في ثانوية صفد بتنكتي زيت، واحدة لأجرة الغرفة، وواحدة لمصروفه الذي لم يتجاوز 30 قرشاً في الشهر، عرف ضروباً من الألم التي طالما احتملها بصبر وكرامة. وكم أحس بالمرارة عندما لم يتمكن من استقبال معلم الرياضيات في منزله، فاستقبله في منزل خاله. وكم تعذب حينما سرق له زميله في السكن مصروفه الشهري، فأكل «قتلة» من والده، ولم يأكل بعض وجبات طعامه غيظاً. وكان غيظه أشد إيلاماً من كفي والده.

إن الإحساس بآلام الفقر لم يحوِّل أبو ماهر شخصاً باحثاً عن الثروة، بل أمده بوعي اجتماعي، فأيقن أن سبيل الفكاك من الفقر هو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية لا الجري المتوحش وراء المال. ولهذا التحق مبكراً بالعمل النقابي، وناضل في صفوف «جمعية العمال العربية الفلسطينية»، ثم اشتبك نضاله الاجتماعي بنضاله الفلسطيني. وهذه المسيرة الطويلة منحت أبو ماهر اليماني هذا الحضور المتألق، ومنحتنا نحن أيضاً مثالاً نادراً للنزاهة.

طالما اعتقدت ان عائلة أبو ماهر تتحدر من اليمن مثل كثير من العائلات العربية. لكنني علمت أن «اليماني» لقب أُطلق على جده أحمد لأنه خدم طويلاً في الجيش العثماني في اليمن من دون أن تعلم عائلته عنه أي خبر. وعندما عاد بعد خمسة عشر عاماً اكتسب كنية «اليمني» في البداية، ثم «اليماني» في بعد. وأحمد اليماني الذي سمي على اسم جده هو الذي أسس في سنة 1949 «المنظمة العسكرية الفلسطينية»، مع نفر من رفاقه كان بينهم: فايز فضة وصالح قاسم ومحمد عطوي وخالد عبد الوهاب وغيرهم. وكان قبل ذلك قد رفض مغادرة سحماتا في سنة 1948 وبقي في وطنه حتى سقطت قريته، فاعتقل وطرد أهله إلى لبنان. وعندما أطلق سراحه، في ما بعد، سيق إلى بلدة المنصورة، وهناك قال له الضابط الإسرائيلي: «أنظر، تلك هي الأراضي اللبنانية. اذهب، وإياك أن تفكر في العودة. سِرْ مباشرة، وإياك ان تلتفت إلى الخلف، وستصل إلى بلدة رميش. ومن رميش إلى بنت جبيل وصور وطرابلس، وهناك عثر على عائلته في عنابر الميناء. ومنذ تلك اللحظة سيدشن أبو ماهر اليماني طوراً جديداً في حياته كان من علاماته انه دخل السجن في لبنان نحو 55 مرة. وكم كان جزلاً حينما كان يروي كيف اشترى رشاشاً من طراز كارلو من قرية حبوش الجنوبية، وكيف جرى تفكيكه كي يتسنى لأم ماهر أن تنقله إلى مخيم النبطية مخفياً في قماط ابنها مهند. وهذه الأسلحة البسيطة هي التي ساهمت في تجهيز مجموعة «شباب الثأر» للقيام بعمليتها الأولى في 2/11/1964 التي استشهد فيها خالد الحاج أبو عيشة، كما استشهد لاحقاً شقيقه محمد اليماني في العملية الثانية للحركة في 18/10/1966 والتي استشهد فيها أيضاً سعيد العبد سعيد ورفيق عساف وأُسر سكران سكران.

مثل صبّار الوعر

إذا كانت الفاقة والأحوال العسيرة أوقدت الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية لدى أحمد اليماني، فإن الاستعمار الإنكليزي أشعل في فؤاده جذوة النضال الوطني

.

وقد احتفظ هذا السحماتي الرقيق في خياله وعقله بثلاث وقائع ساهمت بالتأكيد في تكوين وعيه السياسي. ولعل السابع عشر من حزيران 1930 هو الواقعة الأولى أو بداية التكوين السياسي لأبو ماهر؛ ففي هذا اليوم شاهد بأم عينه الشهداء الثلاثة، شهداء ثورة البراق (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير) معلقين في باحة سجن عكا المركزي. وكان ذلك اليوم هو المرة الأولى التي يغادر فيها أبو ماهر القرية. أما الواقعة الثانية فتقول إنه بينما كان ذاهباً مع والده لحراثة «أرض القواطيع» بين سحماتا وترشيحا صادفتهما دورية إنكليزية، وعلى الفور بادرت عناصر الدورية والده بالضرب وألقوا به أرضاً، وراح أحد أفراد الدورية يضربه بالمنساس حتى أدماه، ثم اقتادوه وسجنوه عدة أيام. والواقعة الثالثة إن هذا الوالد المجروحة كرامته لم يتخلف عن الالتحاق بثورة 1936 بعد أن باع البقرة واشترى بندقية.

هذه الوقائع التي شكلت المداميك الأولى للوعي السياسي لدى الفتى أحمد، أينعت، في ما بعد، حقولاً من الوطنية الصافية، وراحت هذه الحقول تنقف أزهاراً ورياحين وزنابق، اشتممنا عبيرها في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني العظيمة، وكان هذا العبير يفوح في صورة مقاتلين هنا وشهداء هنالك ومناضلين أمثال أبو ماهر اليماني.

عرفته منذ نحو ست وثلاثين سنة. وديع كحمائم البيادر، جريء في قول ما يعتقد، أصيل في انتمائه إلى العروبة، صلب كصخر البازلت، شديد كمطارق الحديد، ثابت كزيتونات الجليل، شوكي مثل صبّار الوعر، رقراق كمياه الأودية في الكرمل، متجذر لا تتمكن الأيام منه، راسخ تعجز الأحوال المتقلبة عن تقليب مبادئه. ومنذ أكثر من خمس وثمانين سنة ظل أبو ماهر فقيراً مثلما ولد في سحماتا ومثلما كان في جمعية العمال العربية الفلسطينية، ومثلما بقي حتى وفاته يجمع أناشيد الفتوة في فلسطين ليعلمها للفتيان في لبنان.

أبو ماهر اليماني

السحمـاتـــي

– ولد في قرية سحماتا في قضاء عكا سنة 1924.

– تخرج في الكلية العربية في القدس. سنة1941

– كان أحد قادة «جمعية العمال العربية الفلسطينية بين 1944 و1948.

– أمين سر اللجنة الشعبية للدفاع عن سحماتا في سنة 1948.

– شارك في معارك الجليل في عام النكبة، ورفض مغادرة فلسطين بعد سقوط معظم مدنها.

– اعتقلته قوات «الهاغاناه» في 29/10/1948، ثم أبعدته إلى لبنان في 31/1/1949.

– أسس مع نفر من رفاقه «المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين» في سنة 1949، والاتحاد العام لعمــال فلسطين ـ فرع لبنان.

– شارك في تأسيس «حركة القوميين العرب» إلى جانب جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، وكان أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

– اعتقل خمس وخمسون مرة في لبنان جراء نشاطه السياسي.

– عضو في المجلس الوطــني الفلســـطيني، وعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطــينية عدة دورات.

– عُرف بصلابته في مواقفه السياسية، وبالبساطة في العيش وبطيبته ووداعته.

– توفي في 4/1/2011 ودفـن في مقبرة شهداء فلسطين.

أبو ماهر اليماني

اسم الكاتب : صقر أبو فخر
2013-08-16

مقالات ذات صلة