المقالات

حرب لبنان: الحاجة إلى سرديّة وطنية كبرى

جريدة النهار 13 نيسان ابريل 2021

يمرّ يوم 13 نيسان، ذكرى حرب لبنان السادسة والأربعين، والبلاد تعاني من تنين متعدّد الرؤوس: الغلاء والتعثر الاقتصادي وفيروس الكورونا والأزمة الحكومية المقيمة وتداعيات انفجار المرفأ.

وهذه المناسبة هي لحظة يقظة بأنّ انسداد الأفق في مواجهة هذا التنين ليس حتمياً، بل يمكن هزيمته بتجاوز العوامل التي أوصلت إلى 13 نيسان 1975، ثم الانطلاق نحو سردية وطنية كبرى.

السرديات الطائفية الأربعة

لقد نجح الرئيسان كميل شمعون وفؤاد شهاب في خلق سردية وطنية كبرى استمرت حتى العام 1974 وشهدت تحوّلات اجتماعية وسياسية نحو الدولة المدنية والمواطنية الجامعة. ولكن بعد اندلاع الحرب عام 1975 تسلّلت تدريجياً أربع سرديات طائفية، لكل منها عواملها الآنية والتاريخية. وهي: السرديّة المارونية والسرديّة المسلمة السنيّة والسرديّة المسلمة الشيعيّة والسرديّة الدرزيّة. وهي سرديات مؤقتة أساسها المشاعر الجياشة وبعض تفاصيلها صحيح وبعضه من تدليك الحقائق التاريخية وتركيبها. ونشرح هذه السرديات هنا بإيجاز:

السرديّة المارونية والتي يعلنها بدون رتوش حزب القوات اللبنانية، تقول إنّ المسيحيين هم في حال مواجهة مع المسلمين منذ 1400 سنة، تخّللها استثناءات قليلة أبرزها حقبة الفرنجة (الصليبية 1097-1307). وفي سياق هذه السردية، فإنّ العصور الأموية والعباسية والمماليك هي حقبات اضطهاد وظلم للمسيحيين وخاصة في جبال لبنان، حتى كاد الحضور المسيحي يندثر. وأنّ ما زاد الطين بلّة أنّ حكم المماليك قد استُبدل بعصور الظلام العثماني منذ العام 1516، حيث نكّلت السلطنة بالمسيحيين وأيّدت المجازر ضدهم وساهمت في الاعتداء على مناطقهم، ودعمت القضاء عليهم في الفترة 1840 -1861. ولذلك لم يهنأ العيش للمسيحيين إلا بعد ولادة متصرفية جبل لبنان برعاية غربية بعيداً عن حكم المسلمين لمدّة نصف قرن، ثم بعد ولادة لبنان الكبير على يد القابلة الفرنسية عام 1920 فارتاح مسيحيوه وباتت لهم اليد العليا. إلا أنّ المواطنين المسلمين في لبنان احتضنوا الفلسطينيين الذين هدّدوا استقرار لبنان وجلبوا تدخّل سورية واحتلالها للبنان طيلة 32 عاماً. وهذا الواقع فرض على المسيحيين اللجوء إلى مقاومة مسلّحة مثّلتها القوات اللبنانية التي تستمد اسمها من قوات الإنجيل السماوية ومن صليب قرّر المقاومة.

أمّا السردية الدرزية فتقول إنّ أساس لبنان هو إمارة جبل لبنان وإنّ أساس هذه الإمارة هي الدروز، وخاصة من الأسرة التنوخية في زمن المعنيين الذين اعترفت السلطنة العثمانية بحقهم في الحكم وأصدرت فرمانات بهذا الخصوص. وكان أبرزهم الأمير فخرالدين الثاني المعني الكبير في أواخر القرن السادس عشر. وتضيف السردية أنّه حتى بعدما بات أمير الجبل مارونياً في أواخر القرن الثامن عشر فقد استمرت السلطنة العثمانية في إصدار فرمان بتعيين أمير جبل لبنان تحت اسم “أمير الدروز”. وأنّ الدروز تعرّضوا للاضطهاد والإضعاف في قرون السلطنة العثمانية التي فرضت عليهم الضرائب وسخّرتهم في جيشها. ولم يكفِ ذلك بل أنّ الأمير بشير الثاني الشهابي وكان مارونياً نكّل بهم وقتل زعماءهم، وأبرزهم بشير جنبلاط. وأنّ الاحتلال المصري (1831-1840) دعم الموارنة ضد الدروز ودعم خاصة حكم الأمير بشير الجائر. وأنّ الموارنة هم من استحضر فرنسا إلى لبنان بعد سقوط الامبراطورية العثمانية عام 1918، فقاومها الدروز في بلاد الشام طيلة سنوات وأعلنوا ثورة جهادية كبرى عام 1925، وقف منها الموارنة موقف المتفرج في حين دفع الدروز ضريبة الدم ضد الاستعمار الغربي.

وبعكس السردية المارونية والسردية الدرزية، فالسردية المسلمة السنيّة تقول إنّ السنّة ينتمون إلى أمة إسلامية شاسعة، والسلطنة العثمانية كانت هي التعبير عن هذه الأمة، في وقت كان السنّة في عزّ ورخاء بانتمائهم الصحيح إلى الوطن العثماني المتعدّد الأعراق والمتوحّد في الإسلام. فهم كانوا قضاة وإداريين وعسكريين ونواب ووجهاء مدن. حتى جاء الاستعمار الأوروبي في الحرب العالمية الأولى بمثابة هجمة صليبية جديدة، فقضى على السلطنة العثمانية واسّس لكيان لبناني مسخ يرضي كاثوليكيي الشرق وخاصة الموارنة منهم، وليس لكيان عربي أوسع كما وعدت بريطانيا. وهذا ما دفع بالمسلمين إلى الصف الثاني في دولة لبنانية لا يحكمونها، إلى أن استردّوا حضورهم بعد اتفاق الطائف عام 1989.

والسرديّة الرابعة هي السرديّة الشيعيّة، بأنّ الشيعة هم أساس هام في كيان لبنان منذ القرن الثامن، سواء كان لبنان كبيراً أم صغيراً. فهم كانوا في جبل عامل وبلاد بشارة وبلاد جبيل وأعالي كسروان وعكار وطرابلس والهرمل وبعلبك، وشعروا بالأمان في ظل الخلافة الأموية في دمشق، ثم في ظل الخلافة الفاطمية والممالك الصليبية وقامت لهم ممالك في طرابلس وصور، وخاصة الإمارة الحمدانية وعاصمتها حلب، إلى أن تعرّضوا للاضطهاد منذ انكسار الفاطميين وزوال ممالك الفرنجة، عندما هاجمهم المماليك المصريون في عقر دارهم، مدعومين بفتوة من الإمام ابن تيمية قاضي الشرع في دمشق بأنّ الشيعة هراطقة،. وتضيف السردية أنّ حكم المماليك أسّس لقرون من الظلم إذ جاء من بعدهم الترك ليبدأ الاستبداد العثماني الطويل الذي دفع الشيعة للسكنى في المناطق النائية وأعالي الجبال، في عزلة وجهل وتخلّف. وكلّما سنحت فرصة عودة الشيعة ومقاومتهم، كان العثمانيون يجرّدون الحملات العسكرية ضدهم، يساعدهم في ذلك والي دمشق ووالي عكا وأمير جبل لبنان، سواء كان درزياً أم مارونياً. وأنّ الشيعة بقيوا على هذه الحال من الضعف والحرمان في ظل دولة لبنان الكبير منذ 1920 يستميلهم وجهاء النظام اللبناني ليجعلوا منهم وقوداً في صراعاتهم، أو يستغنون عنهم لتبتلع أراضيهم اسرائيل وتنفيهم، فوُجدت مقاومة إسلامية تدافع عنهم.

الحاجة إلى سردية الوطنية

ليس فقط أنّ في كل سردية كم من الحقائق تجعل المراقب يتعاطف مع كل منها، بل من العبث التعرّض بالانتقاد لأي من السرديات الأربعة وبالتالي انتقاد مَن وراءها من قيادات وفعاليات على الأرض، لأنّ ذلك يؤدي إلى الوقوف مع أحدها ضد السرديات الأخرى.

فمن الواضح أنّ هذه السرديات مركّبة وممنتجة (montage) لتعطي قدراً كبيراً من الشعور بالغبن والمظلومية التاريخية في كل طائفة من الطوائف الأربعة. وليس أقوى من الشعور بالظلم لاستثارة العصب الطائفي. فهذه السرديات هي تاريخ ذاتي نفسي للطوائف الكبرى وجزء من ترسانة سلاح في الصراع بوجه الطوائف الأخرى. ثم كأنّ هذه السرديات لم تكفِ كتحدّ يمنع بروز سردية وطنية كبرى تجمع كل المواطنين في دولة مدنية، فوراء كل سردية من السرديات الأربعة وُجدت دولة حامية خارجية تقوم قيادة كل طائفة بتوظيفها (أي توظيف دعم الخارج) ضد الداخل اللبناني، لإضعاف خصومها في الطوائف الأخرى. فلجأ المسلمون السنّة تاريخياً إلى حماية مصر وعروبة عبدالناصر ثم إلى السعودية بشكل أساس، ولجأ الشيعة إلى حماية العراق وإيران، والموارنة إلى حماية فرنسا والفاتيكان وأحياناً إلى أميركا واسرائيل.

والحقيقة هي أنّه مع بدايات انهيار الدولة المدنية في لبنان عام 1975، ظهرت إلى السطح المشاعر المذهبية المبيتة وتراجعت المواطنية الجامعة، فانتقلت فعالايات وقيادات الطوائف من دور بناء دولة إلى دور المقاومة المسلّحة، أي صراع البقاء لكل طائفة، وهو ما فتّت البلاد ووحدتها.

وبعد انتهاء الحرب الطويلة عام 1990، نسيت الأجيال الجديدة أنّ لبنان قادر على انتاج سردية جامعة، كما فعل في السابق، وأنّ القيادات والفعاليات اللبنانية وصلت إلى بناء الدولة الواحدة وخاصة في في عهدي كميل شمعون وفؤاد شهاب. فقد قام هذان الرئيسان ببناء المؤسسات الرسمية والمشاريع العمرانية، في وقت لم تكن مارونية فؤاد شهاب مثلاً مسألة تثير اهتمام المسلمين لأنّه تصرّف كرئيس كل لبنان وكل اللبنانيين. وهذان العهدان أفسحا المجال أمام ولادة مجتمع مثقف يسعى للدولة المدنية والسردية الجامعة والمواطنية المحبّة للبنان، خاصة من 1964 إلى 1974.

نعم، كثُر الكلام أثناء الحرب عن الفدرالية والتقسيم في الفترة 1976-1982، ولكن ما ان انتُخب الشيخ بشير الجميّل قائد القوات اللبنانية رئيساً للجمهورية عام 1982 حتى تراجع الخوف وخفت حدّة السردية المارونية، وأخذ بشير الجميّل يتكلّم كرجل دولة لبنان ورئيس لكل اللبنانيين عن ضرورة إنهاء الميليشيات وفرز عناصر القوات اللبنانية إلى أجهزة الدولة اللبنانية كما أفصح مراراً لمستشاره جورج فريحة.

أي أنّ السرديات الطائفية كانت لحاجات الطوارىء، مؤقتة وتراجعت إلى العقل الباطن عندما عادت الدولة ومعها السردية الوطنية الكبرى، بانّ على أرض لبنان شعب واحد، تعدّدت طوائفه، تربطه عادات وتقاليد وجذور تعود إلى آلاف السنين، وشرعية مستمدّة من تعاقد الشعب على دستور واحد ومؤسسات دولة واحدة، بجيش وإدارة عامة وأجهزة وعلم لبناني أحمر تتوسطه الأرزة، وفولكلور وثقافة بناها أبناؤه منذ خمسينيات القرن الشعرين، حتى بات كل مواطن يعرّف عن نفسه بأنّه لبناني.

وهذه السردية الوطنية الكبرى كفيلة بهزيمة التنين المتعدد الرؤوس وإعادة لبنان إلى الاستقرار والنهوض الاقتصادي.

مقالات ذات صلة