المقالات

الانتخابات الأمريكية || رؤية من الداخل

كانت الانتخابات الأمريكية، ولا تزال، محطة هامة في معرفة وتحديد السياسات والاستراتيجية الامريكية المقبلة، واستقراء النتائج والاتجاهات التي تحدد المجرى العام لهذه السياسة. وتتصل انتخابات عام 2016 التي تجري مقدماتها اليوم، بقضايا الداخل الأمريكي أولاً، أكثر من سابقاتها في العقود الثلاث الاخيرة. أما السياسة الخارجية الأمريكية، والتي تهمنا نحن أكثر، فإنها انعكاس طبيعي لأوضاع الداخل الأمريكي، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وعليه، فمن المهم أن نسلط الضوء على قراءة الانتخابات الأمريكية من داخل النظام / المجتمع الأمريكي، وليس من خارج فقط.

حالة الاستقطاب الحادة :

نشهد حالة حادة من الاستقطاب السياسي في ” الساحة ” الأمريكية اليوم. حيث استطاعت قوى المال أو شارع وجماعة

Khaled Barakat
خالد بركات

وول ستريت، كما تسمى شعبياً، أن تمركز قوة المال والثروة في قبضة مجموعة قليلة من الشركات والعائلات. هذه سياسة قديمة – جديدة، واعتمدتها الطبقة المالية المهيمنة منذ العام 1990 تقريباً. بشكل غير مسبوق عشية وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي.

فما يملكه 1 % من الأمريكيين الأثرياء بات يعادل ما يملكه 60 % من عموم الشعب الأمريكي. إن عائلة ” وولتن ” التي تملك شركة ” وول مارت ” مثلاً، تملك ما يعادل 30 % من الثروة.

وتتجمع البنوك الكبرى ومؤسسات المال وصناديق التأمين والقروض في الولايات المتحدة في جبهة احتكارية واحدة، تتحد وتمركز قوتها في الداخل، هذا الواقع، ينشر حالة من الخوف على ” صورة النظام الرسمالي ” أولاً. ولنتذكر الاحتجاجات الشعبية العارمة عام 2011 التي مثلتها حركة ” احتلوا وول ستريت ” المناهضة للرأسمالية المتوحشة ونتائج ما عرف بمرحلة العولمة.

هناك قانون أقرته المحكمة العليا مثلاً، ويعرف ب ” سيتزن يونايتد “. يمكّن هؤلاء، عملياً، من شراء الانتخابات والمرشحين للرئاسة وللكونجرس على حد سواء. هذا القانون يمنح الشركة، بوصفها شخصية مستقلة، منح المال للمرشحين وتمويل الحملات الانتخابية، دون رقابة او حدود.

على الجانب الآخر من المعادلة، تتفاقم أزمة النظام الرأسمالي الأمريكي، وتلقي بظلالها على واقع المجتمع بتفاقم حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، من زيادة التضخم ومعدلات البطالة والجريمة، الافقار، التعدي على الدولة والتغول عليها.

كما أن استمرار عملية الانتقال للصناعات والشركات الامريكية إلى آسيا، وتحديداً الصين. حيث العمالة الرخيصة والتهرب من الضرائب، وغيرها من ” الامتيازات “، هذه السياسة المستمرة، أصبحت اليوم سبباً مباشراً في إفقار الطبقات العمالية المنتجة. ويسال الشعب الأمريكي: أين ذهبت مصانعنا؟ لقد توقف 30 ألف مصنعاً عن العمل فقط في السنوات الثلاث الأخيرة…أي بمعدل عشرة الاف مصنعا في السنة.

وصل عدد المعتقلين في السجون الأمريكية إلى 2.2 مليون، أكثرهم من السود والطبقات الشعبية الفقيرة. هذا يضع أمريكا الرقم 1 عالمياً في بناء السجون والمعتقلات، التي تحّولها الرأسمالية إلى مصانع تستفيد منها شركات الأمن وغيرها. وعمالة مجانية منتجة لكن بلا أجر تقريباً. جيش احتياطي من العمال، كما أن تزايد عسكرة الشرطة في الولايات والمدن الكبرى، وحالة القمع ضد السود، واستهداف الأقليات والملونين، من قتل واعتقالات وافقار، تصاعدت منذ حقبة بوش الابن، ولاحقاً تصاعدت أكثر في حقبة الرئيس أوباما.

ان انتفاضة فيرجسون في احياء السود بولاية ميزوري، ضد سياسة القتل والقمع والعنصرية المؤسسة ضد السود، وجدت صدى لها وتجاوبا معها في معظم المدن والاحياء الشعبية الفقيرة في الولايات المتحدة بل وخارج حدود الامبراطورية.

الفساد في النظام السياسي وشراء الانتخابات أصبح يهدد ” صورة أمريكا ” وأركان نظامها الديمقراطي التي تفاخر به الولايات المتحدة و باسمه تدفع بموقعها الأول لقيادة العالم. وتوحش الرساميل صار يهدد القضاء أيضاً، أصبح تدخل الشركات الخاصة ( لوبيات الضغط) في قرارات الدولة وعمل أجهزتها القضائية في مستوى علني وفاقع يصعب ستره، وهذه الحقيقة تخيف قطاعات شعبية واسعة، بما في ذلك النخب السياسية والأكاديمية في المجتمع الامريكي.

ان ما يُسمى بالطبقات الوسطى، تتآكل، وتقل أعدادها، تهبط إلى القاع وإلى محيط الطبقات الشعبية المفقرة. فيما يجري احتكار وتمركز الثروة والسلطة كما قلنا سابقاً، في قبضة 1 % ربما أقل. الأمر الذي دفع ببعض الكتاب للقول أننا بصدد نظام سيعود بنا إلى قرون خلت!

يمكن قول الكثير حول ” التحديات ” التي تواجه النظام الأمريكي على مستوى الداخل. لكن ما يهمنا هنا هو الاشارة إلى حقيقة تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما أسس لحالة الاستقطاب الحادة التي نراها اليوم في الولايات المتحدة وفي فترة الانتخابات تحديداً.

ويحاول مرشح المال والعقارات عن الحزب الجمهوري لموقع الرئاسة (رجل الأعمال دونالد ترمب ) إلى إشاعة أجواء الكراهية والعنصرية لتأسيس نظام فاشي وقمعي تحت شعار ” لتعود أمريكا الكبيرة ( الرائعة) من جديد “ويستند ترمب في حملته إلى ” نجاحه ” كرجل أعمال. اذ يسوق خطابا ًتافهاً مستهدفا ًالجاليات المسلمة والمهاجرين ومن هم من اصول لاتينية ( المكسيكيين تحديدا ً) والآسيويين والسود واللاجئين وغيرهم، واعتبارهم أحد الأسباب الرئيسية في الأزمة!

ويعبر ” ترمب ” عن أهداف الطبقة المالية والعقارية التي يمثلها بكل وضوح مقزز، وبرغم كذبه المستمر، إلا أن الملايين من الأمريكيين البيض، ومن الفقراء البيض، يرون فيه ” الأمل الذي سيعيد أمريكا إلى أمجادها مرة أخرى “.

نقاط القوة التي يتمتع بها ترامب، كما يقول هو:

– لا يأخذ تبرعات، ويمول حملته بننفسه ، وبالتالي هو غير قابل للضغط ولا لشراء مواقفه من اللوبيات.

– سيكون رئيسا ًقوياً وناجحاً لأنه رجل أعمال قوي وناجح.!

– سيرفض العلاقات القائمة الآن بين أمريكا مع الصين والمكسيك وغيرها.

– سيعيد النظر في الاتفاق النووي مع ايران.

– بناء جدار بين أمريكا والمكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية.

– سيعمل على إنجاح ” صفقة العصر ” ، أي تحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين.

– سيقوم بطرد ملايين المهاجرين ” غير الشرعيين ” من البلاد.

المرشح الثاني للرئاسة عن الحزب الجمهوري، تيد كروز، وهو رقم 2 في عدد المندوبين بعد ترامب. لكن يبدو أن قيادة الحزب تبحث الآن في خيارات أخرى غير الاثنين، وهناك دفع واضح لاستبعاد كروز والخلاص من ترامب في وقت واحد، خاصة الأخير، الذي أصبح كابوساً يهدد ويخيف صناع الاستراتيجية السياسية من الجمهوريين. وذلك لما يتصف به من وقاحة سياسية غير معهودة ، وصورة عن الحزب لا تعكس ” أخلاق وتاريخ الجمهورين “! مع ذلك، فقد يجري عقد صفقة معه إذا التزم بشروط محددة في إدارة مؤسسة الرئاسة.

على الجانب الآخر من المعادلة هناك المرشحة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. وهذه قادمة من المؤسسة الرسمية الامريكية التي جرّبها الشعب الأمريكي مع حقبة أوباما. ويتذكر ملايين الأمريكيين كيف خسروا بيوتهم للبنوك مع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد العالمي في العام 2008- 2009 ، وكيف تم انقاذ البنوك من قبل الدولة وعلى حساب الطبقة الوسطى ومن أموال الضرائب. كما أنها صوتت لصالح الحرب على العراق.

هيلاري كلينتون ، في انتخابات الحزب، تتكأ على شخصية ودعم الرئيس أوباما، وتتكأ على ” انجازاته ” في التأمين الصحي، وخلق 800 ألف فرصة عمل شهرياً، وسحب القوات الأمريكية من العراق وافغانستان . وتستند على دعم شركات النفط والبنوك وعلاقاتها الطويلة مع الطبقة المهيمنة وتجربتها العملية في البيت الأبيض وفي السياسة الخارجية. كما أن شهرتها ومعرفة الجمهور بها. يشكّل مصدر قوة في رأيها.

لكن كلينتون ليست ظاهرة سياسية جديدة، وهي تمثل السلطة القائمة في البيت الابيض اليوم، ولا تمثل حالة متمايزة وبعيدة عن خطاب الخصوم من الجمهوريين، خاصة لجهة الشركات وعلاقاتها مع جماعة وول ستريت، لذلك يشكل المرشح الآخر، بيرني ساندرز حالة شعبية جديدة أقرب في مواقفه إلى قواعد الحزب الديمقراطي وإلى يسار الوسط. وهو، إلى جانب رجل الأعمال ترمب، على الطرف الآخر، يشكلّان ظاهرتي الانتخابات الأمريكية بامتياز، كل من موقع الخصم والنقيض. فهو متهم مثلاً من قبل دونالد ترامب بأنه ” شيوعي ” ، لكن عدد الأصوات التي يحظى بها ساندرز ، خاصة خلال الاشهر الأخيرة – كبيرة جداً، وغير متوقعة بل ويتفوق في النقاط على ترامب بحوالي 20 نقطة انتخابية

..

المرشح للرئاسة عن الحزب الديموقراطي ” بيرني ساندرز ” يبشر بما يسميه ” حاجة أمريكا إلى الثورة السياسية ” كما يقول، ويشن ساندرز حملة إعلامية وسياسية غير مسبوقة على ( جماعة وول ستريت) منحازاً إلى الطبقات العمالية والطبقة الوسطى. ويحظى ساندرز بتأييد قطاعات شعبية واسعة، خاصة في أوساط الشباب، حيث بدأ يتفوق على هيلاري كلينتون في 12 ولاية حتى الآن. وفي انتخابات الحزب على مستوى الأعداد أيضاً، لكنه لا يزال رقم 2 في عدد المندوبين للمؤتمر العام للحزب.

ويحاول ساندرز ان يقدم نماذج من أوروبا الاسكندنافية باعتبارها نماذج ناجحة ، ويعتبر السويد، ألمانيا، فنلندا، والدنمارك وغيرها، أقرب إلى رؤيته ، خاصة في مجال التعليم والصحة والضمان الاجتماعي. وأهم نقاط حملته الانتخابية هي : رفع الحد الأدنى من الأجور إلى 15 دولاراً في الساعة والمساواة في الأجر بين المرأة والرجل، و مجانية التعليم الحكومي ، بما في ذلك الجامعي، والاهتمام بالضمان الاجتماعي وتوسعيه ولهذا يحظى ساندرز بتأييد واسع من الطلبة والمثقفين والأكاديميين ويسار الوسط.

في مؤتمر “ايباك” الصهيوني، قبل أسبوع، شارك كل المرشحين للرئاسة في المؤتمر وقدموا الولاء والطاعة لـ”إسرائيل”، باستثناء المرشح بيرني ساندرز ( يهودي بالمناسبة ) لم يشارك. واعتذر عن الحضور. وتجدر الإشارة إلى أنه حصل على أعلى الأصوات من العرب والمسلمين الأمريكيين وخاصة في ولاية ميتشاغن.

خلاصة :

إن الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة تظل في جوهرها طرق وآليات الوصول للحكم والإدارة في البيت الأبيض، التي قدمتها البرجوازية في مراحل تطورها المختلفة منذ قرن على الأقل وتوافق عليها الحزبيين ونظامهما السياسي.

الصراع في الداخل تحدده موازين القوى في الداخل أولاً، وتتحكم به الازمة الاجتماعية – الاقتصادية التي هي ملازمة لنظام الرأسمال.

وتشير الانتخابات الامريكية في هذه الأيام إلى انكفاء أمريكا نحو قضايا الداخل وأزماته الكبيرة والمتعددة. الأمر الذي يبشر بضعف أكبر في قوة ومكانة الولايات المتحدة كونياً، وفي عالم بدأت تطل فيه أقطاب وقوى جديدة تبحث عن حصتها في السيطرة والثروة والسوق.

خالد بركات

11:00 – 01 أبريل, 2016

مقالات ذات صلة