المقالات

مصالحة أم “عمليّة مصالحة”؟

لا شكّ أنّ هناك أجواءً إيجابيّةً ظهرت بعد الصّمود والانتصار ضد العدوان العسكريّ في قطاع غزة والانتصار الديبلوماسيّ في الأمم المتحدة، وما أدت إليها من خطوات في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، أبرزها: إطلاق سراح بعض المعتقلين، وتخفيف حدة التراشق الإعلامي، والسماح بتنظيم مهرجانات الانطلاقة لـ”فتح” و”حماس”؛ ووفرت تلك الأجواء فرصة لتحريك ملف المصالحة.

إن الوحدة الميدانيّة والسياسيّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، خصوصًا في ظل التعنت والتطرف الإسرائيلي وانسداد أفق ما يسمى “عمليّة السلام”، والإجماع وراء الإنجاز الديبلوماسي، وتعبير الشعب الفلسطيني عن أولويّة المصالحة، خصوصًا من خلال الحشد الشعبي الهائل في مهرجان انطلاقة “فتح”، وحاجة الحكم الجديد في مصر للمصالحة حتى يحافظ على الاستقرار في غزة، الذي يساعده على تحقيق الاستقرار في سيناء، ونسج علاقاته مع الإدارة الأميركيّة وإسرائيل، وحاجة الرئيس إلى المصالحة لدعم استمرار قيادته للمنظمة، والسلطة، والبرنامج السياسي المعتمد منذ أوسلو حتى الآن، وحاجة “حماس” إلى المصالحة لدعم جهودها للحصول على الشرعيّة العربيّة والدوليّة على طريق تقدمها لقيادة الشعب الفلسطيني، أسوة بما حصل في المنطقة العربيّة، خصوصًا مصر وتونس، اللتين شهدتا صعودَ الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، التي تشكل “حماس” امتداد لهما في فلسطين؛ حرك “عملية المصالحة”، ولكنها وحدها غير كافية لإنجازها، بل هناك حاجة إلى أشياء أخرى يتم تأجيلها خشية من الفشل في الاتفاق حولها.

فإذا كانت هذه الحاجات للأطراف الفاعلة في فلسطين والحكم المصري تلتقي في نقطة واحدة هي المصالحة، إلا أنها تتباعد في ظل سعي طرف للاستمرار بقيادته للمنظمة والسلطة، وسعي الطرف الآخر لتمهيد الطريق لقيادته.

يضاف إلى هذه التعقيدات ما تشهده مصر من فوضى وانقسام ما بين الإسلام السياسي وقوى المجتمع المدني الأخرى، وجماعات الانقسام الفلسطينيّة التي أصبحت قويّة جدًا بعد حوالي ست سنوات على وقوع الانقسام؟

وطبعًا، العامل الإسرائيلي لا يزال يلعب دورًا مهمًا جدًا في وقوع الانقسام واستمراره وتعميقه، فهو يملك أوراقًا قويّةً حاسمةً، قادرٌ من خلالها على تعطيل أو منع تقدم ثلاثة ملفات على الأقل من الملفات الخمسة المطروحة على طاولة الحوار الوطني الفلسطيني، وهي ملفات الحكومة والانتخابات والأمن.

وبالرغم من ذلك، هناك أوهام فلسطينيّة ظهرت مجددًا بعد إعادة انتخاب أوباما واختيار جون كيري وزيرًا للخارجيّة، وما أبداه من اهتمام باستئناف المفاوضات، وبعد الانتخابات الإسرائيليّة؛ تعبر عن العجز وعدم توفر الإرادة لفتح الطريق أمام خيارات وبدائل أخرى فتح الطريق لها الحصول على الدولة المراقبة، وانتصار غزة ومبادرات أبواب الشمس والكرامة والقمر والحرية. خيارات وبدائل لا يمكن أن تتحقق من دون استعادة الوحدة على برنامج قواسم وطنيّة مشتركة وشراكة حقيقيّة وأسس ديمقراطيّة وقناعة بأن مقاومة الاحتلال وجعله خاسرا هي الطريق الوحيد لتحقيق إنجازات سياسيّة حقيقيّة.

لا أحد يصدق أن هناك فرصة حقيقيّة لإنجاز المصالحة هذه المرة، بسبب الخيبات السابقة، ولا أحد يصدق، بالرغم من الترحيب بأي خطوة مهما كانت صغيرة، أنه حتى في حال تطبيق الجدول الزمني بأنه قادر على إنجاز المصالحة الحقيقيّة، بل أفضل ما يمكن أن يقود إليه هو تشكيل حكومة فوقيّة تدير الانقسام، يتم تغييرها بحكومة أخرى إذا لم تجر الانتخابات لأي سبب من الأسباب، وذلك لأن كل من البرنامج السياسي والمنظمة والملف الأمني وإستراتيجيّة مواجهة التحديات الراهنة مؤجلة، ومن دون كل ذلك لا يمكن تحقيق المصالحة.

فإذا جرت الانتخابات وسلّمنا جدلًا بأن إسرائيل ستسمح بإجرائها من دون الاتفاق على الأهداف والمرجعيات وأشكال النضال، وكيفيّة التعامل مع شروط الرباعيّة الدوليّة والتدخلات الإسرائيليّة لإجهاض نتائجها، كما حصل بعد الانتخابات التي جرت عام 2006.؛ وفي ظل الأوضاع الراهنة، وبعد 3- 6 أشهر كما يشاع، وأدت إلى فوز “فتح”، فمن الممكن أن تعتبرها “حماس” محاولة لإخراجها من البوابة التي دخلت منها إلى السلطة، أي صناديق الاقتراع، وسترفض الاعتراف بنتائجها على أساس الادعاء بأنها مزوّرة، وجرت في ظل الاعتقالات وقمع الحريات في الضفة، وستحافظ على سيطرتها على قطاع غزة.

وإذا فازت “حماس”، سترفض إسرائيل تمكين حكومتها من العمل إلا إذا استكملت اعتدالها، ووافقت على ما تبقى من شروط الرباعيّة، ومتطلبات دخولها “بيت الطاعة”.

وإذا لم يفز أي من “حماس” أو “فتح”، وفاز طرف ثالث، فإنه لن يتمكن من الحكم، لأن وزارات السلطة وأجهزتها الأمنيّة تنتمي إما إلى “فتح” أو إلى “حماس”، وبالتالي أي طرف أو أطراف ثالثة ستكون في الحكم من دون أن تتمكن من الحكم.

ولهذه الأسباب وغيرها لا يبدو أن هناك تفاؤلًا أو حماسًا للمصالحة بالرغم من أن الغالبيّة الساحقة من الشعب الفلسطيني تريدها وتعتبرها ضرورة وطنيّة.

فإذا كانت المصالحة من أجل المصالحة فلا داعي لها. وإذا كانت المصالحة من أجل المحاصصة الفصائليّة الثنائيّة والجماعيّة فلا حاجة إليها. فهي تكون بذلك مصالحة تدير الانقسام وليس إنهاءه. مصالحة لتكريس الوقع الراهن الذي لا يسر صديقًا ويسعد كل عدو.

وإذا كان الرئيس فعلًا يريد انتخابات بعد ثلاثة أشهر، ولا يريد أن يترشح فيها، فلماذا لا يقوم هو ولا تقوم “فتح” باختيار مرشحها، وهذه مسألة معقدة لا تتم بين يوم وليلة، خاصة أن البديل غير معروف ولا محسوم، لا فلسطينيًّا ولا عربيًّا ولا دوليًّا، مثلما كان الأمر بعد اغتيال ياسر عرفات.

الحقيقة أن الأطراف ليست لديها الإرادة الكافية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وهي تحرك ملف المصالحة استجابة للإرادة الشعبيّة، ولضغط القيادة المصريّة ولحاجاتها التكتيكيّة.

إطارٌ قياديٌّ موحدٌ للمنظّمة

لا يمكن أن تكون هناك وحدة أو طريق تؤدي إلى الوحدة من دون الاتفاق على إعادة تشكيل منظّمة التحرير وتشكيل قيادة موحدة كخطوة انتقاليّة على طريق إجراء الانتخابات للمجلس الوطني.

فالجديّة في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة لا يمكن أن تعبر عن نفسها بحق من دون تشكيل إطار قيادي موحد للمنظمة، وليس كما حصل بتشكيل لجنة تفعيل المنظمة التي لها دور استشاري، والتي يعني الاكتفاء بتشكيلها تأجيل ملف المنظمة، الذي من المفترض أن يكون الموضوع الأهم على طاولة الحوار الوطني إلى حين إجراء انتخابات المجلس الوطني، التي يعرف الجميع أنها لا يمكن أن تجري في معظم مناطق الشتات وداخل 1948 (أي بما يشمل معظم أفراد الشعب الفلسطيني) قريبًا، لأسباب موضوعية وذاتية.

إن تشكيل إطار قيادي موحد للفترة الانتقاليّة يستمد شرعيته مما تبقى من شرعيّة للمنظمة، ومن الأهداف والحقوق الوطنيّة التي سيسعى لتحقيقها، ومن المقاومة بمختلف أشكالها، التي تعطي شرعيّة أقوى وأهم من شرعيّة صناديق الاقتراع، خصوصًا إذا جاءت وفق إجماع وطني، وذلك من دون التخلي عن إجراء الانتخابات على كل المستويات، بما فيها انتخابات المجلس الوطني، ولكن على أساس التعامل معها كقضيّة نضاليّة يجري الكفاح لفرضها، وليست طلبًا يجب أن يسمح الاحتلال بإجرائها. وموافقة الاحتلال لن تتم إلا إذا جاءت الانتخابات جزءًا من عمليّة سياسيّة تساعد الاحتلال على تحقيق أهدافه عبر استئناف ما يسمى “عمليّة السلام”، التي تغطي على كل ما يقوم به الاحتلال من حقائق احتلاليّة واستيطانيّة، أو عبر جعل الانتخابات القادمة مدخلًا لتكريس الانقسام، مثلما كانت سابقتها مدخلًا لوقوعه.

وهنا، من المثير للسخريّة، الكيفيّة التي تم وسيجري فيها التعاطي مع توسيع لجنة تفعيل المنظمة من دون وضع معايير محددة، بضم شخصيات تحت مسمى المستقلين لأشخاص في غالبيتهم ليسوا مستقلين، ومن دون تشاور حقيقي مع الفصائل بلا استثناء، وإنما محسوبون على هذا الطرف أو ذاك، أو يرقصون على حبال الطرفين، بعيدًا عن تمثيل المستقلين فعلًا في مواقفهم أو أدائهم، لأن الاستقلال لا يعني عدم الانتماء إلى تنظيم فقط، ومن دون تمثيل حقيقي للمرأة والشباب والشتات.

هاني المصري

المركز الفلسطيني للاعلام والأبحاث (بدائل)، 29/1/2013

مقالات ذات صلة