المقالات

طريق كسنجر وست عشرة وكالة استخبارات أمريكية

د. أنيس مصطفى القاسم
د. أنيس مصطفى القاسم

طريق كسنجر وست عشرة وكالة استخبارات أمريكية وطريق الشرعية الفلسطينية.. التيئيس والتيئيس المضاد 2-2 .

في مقال سابق استعرضنا تقريرا لست عشرة وكالة استخبارات امريكية توقع زوال اسرائيل الصهيونية بعد عشر سنوات، واشرنا الى أن التقرير أغفل دور المقاومة الفلسطينية في ذلك. وفي هذا المقال نستعرض هذا الدور.

نهاية الهزائم وتصاعد التحدي

1 ـ في أعقاب هزيمة الجيش الاسرائيلي المجلجلة على يد أبطال حزب الله عام 2006 نشر أستاذ جامعي أمريكي مقالا قيَّمَ فيه الموقف كله، ووصل الى نتيجة ثبتت صحتها في العدوانين على غزة 2008/2009 و2012: لقد انتهى عصر انتصارات الغرب على الاقطار العربية والاسلامية بانتهاء اعتماد هذه الاقطار على التسلح من الغرب وانتهاء اتباع اساليب الغرب في القتال باكتشاف أسلوب مغاير في المواجهة تفقد فيه الدبابات والمدرعات والقوات البرية دورها الحاسم. وكان استنتاجه صائبا تأكد بشكل خاص في عدوان الايام الثمانية على قطاع غزة، حيث كان مصدرُ التسلح دولةً اسلامية هي ايران وجهداً ذاتيأً في القطاع، وحيث كانت المواجهة مختلفة تماما عن الاساليب التقليدية. ونتيجة لهذين العاملين تجمدت القوات البرية الاسرائيلية بجميع معداتها. والاحتياطي الذي هددوا به عند خط الحدود لتنسحب مهزومة دون أن تشن هجوما واحدا. وقبل هذه الحرب الاخيرة مرت السنوات الستة على الحرب اللبنانية دون أن تقدم اسرائيل حتى على مجرد الرد عندما قتل الجيش اللبناني جنرالا اسرائيليا تجاوز هو وحراسه الحدود، وهكذا فقدت اسرائيل القيمة لتفوقها العسكري وقدرتها على الردع، ويقول معلق اسرائيلي إنه عندما وقف اسماعيل هنية يتحدى القوات البرية الاسرائيلية المحتشدة أن تعبر الحدود فإنه كان بذلك يعلن انهيار جدار الخوف وبداية عهد جديد في المواجهة ونتائجها.

التيئيس والتيئيس المضاد

2ـ الايمان بالحق في الوطن وبشرعية النضال لاسترداده شحذا العزيمة، وبهما واصلت الاجيال الفلسطينية المتعاقبة نضالها بمختلف أساليبه على مدى قرن من الزمان ولم تتوقف أو تيأس، بالرغم من الاختلال الدائم لميزان القوى، وبالرغم من احتلال الوطن كله وتشريد نسبة كبيرة من أبنائه، وخيبة الأمل في الانظمة العربية والاسلامية. وجاءت حرب الايام الثمانية تجسيدا للروح النضالية لدى الشعب الفلسطيني وتعبيرا عن حيويته في رفض الاحتلال لوطنه وتصميمه على تحريره منه، مهما طال أمده. وما كان ذلك ليحدث لو أن هذه السنين الطوال من احتلال استيطاني قاهر قد أوصلت الشعب الفلسطيني الى اليأس من الانتصار على العدو، كما تمنى، والاستسلام له. فمنذ بداية المشروع الصهيوني استل الشعب الفلسطيني، بصموده ونضاله، سلاحَ التيئيس المضاد، تيئيس الحركة الصهيونية وأنصار اسرائيل من امكانية نجاح هذا المشروع مهما طال الزمن. إنها مقاومة توقعها قادة الحركة الصهيونية، كظاهرة طبيعية لا مفر منها، وربطوا نجاح مشروعهم بتطرق اليأس الى نفوس أبناء الشعب الفلسطيني. وها هو الشعب الفلسطيني بعد مرور قرن على بداية تنفيذ المشروع الصهيوني يواصل عملية التيئيس المضاد وتعلن صواريخه وأجياله الصاعدة للعالم كله رفضه وتحديه لذلك المشروع في مرحلة جديدة من النضال لم يتوقعها العدو وانصاره. لقد بدأ العد التنازلي في عملية التيئيس المضاد وانتهاء عصر الهزائم، ولم يعد ينطلي على العالم الادعاء بان اسرائيل، وهي المعتدي المحتل، تمارس حق الدفاع عن نفسها، في حين أن الشعب الفلسطيني المحتلة ارضه والمشرد منها هو المعتدي عندما يمارس حقه الطبيعي في محاولة التخلص من الاحتلال الاستعماري لوطنه.

3ـ وفي عملية التيئيس المضاد هذه تمهيدا لإفشال المشروع الصهيوني بكامله، يتحرك الشعب الفلسطيني كله في جميع أماكن تواجده حسب الظروف المتاحة، بل ويكون تحركه تحديا مباشرا للاحتلال، كما حدث في حرب الايام الثمانية، حيث كان تحرك في الضفة وفي الداخل الاسرائيلي من أبناء فلسطين وفي القدس. وفي طولكرم، ولأول مرة تفع مواجهات مباشرة بين قوات الاحتلال وقوات الامن الفلسطينية، حيث أصدر قائد الامن الفلسطيني في المدينة أوامره لجنوده بألا يسمحوا للامن الاسرائيلي بدخول المدينة وبأن يحاصروا مدرعاته اذا اقتضى الأمر. وبالفعل أرسل مائتين من رجاله وطوقوا قوات الامن الاسرائيلي ومنعوها من دخول المدينة. كان هذا أول مرة يحدث منذ عام 1967، اذ أن القاعدة هي أن تنسحب قوات الامن الفلسطينية الى مكاتبها وثكناتها ولا تغادرها الا بعد انسحاب قوات الامن الاسرائيلية اذا طلبت القوات الاسرائيلية دخول مدينة أو قرية في الضفة الغربية. إنها عملية اذلال واهانة لقوات الامن الفلسطينية، واستباحة للمواطنين الذين يفترض أن قوات أمنهم تحميهم. أننا نرجوا أن يكون ما حدث في طولكرم هو البداية، وأن يتحرك هؤلاء الرجال ولو على الاقل لمواجهة المستوطنين وحماية شجر الزيتون والمحاصيل وقت الحصاد أو لمنع اغتصاب هؤلاء للاراضي لإقامة مستوطنات هي غير قانونية أو لحماية المواطنين الذين يتطاهرون سلميا لمنع الجدار غير الشرعي من اغتصاب اراضيهم. إنهم في كل هذا يقفون هع الشرعية الدولية في مواجهة انتهاكها. أليس هذا هو واجبهم فرض الاحترام للقانون؟.

4ـ في الحربين على غزة حرب 1208/1209 و12012، وقبلهما في حربي 1967 و1973 كان التمسك الفلسطيني بأرض الوطن وعدم النزوح منها مهما اشتدت الاحوال أقوى رفض لأمنية التيئيس وأمضى سلاح لتثبيت التيئيس الفلسطيني المضاد في نفوس الاسرائيليين، مما أثار المفارقة الواضحة بين قوة الاحتمال الفلسطيني بالمقارنة مع هزالها لدى الاسرائيلي. لم يفرأبناء غزة بأرواحهم واولادهم، لاحتلال سيناء أو الاستقرار فيها، كما تمنت اسرائيل وروج المروجون من فلول النظام المصري المخلوع. لم يفروا وأثبتوا المرة تلو المرة أنهم هم الخط الاول للدفاع عن سيناء، وأنهم ليسوا أداة لتنفيذ الحلول الاسرائيلية، كما أنهم لا يقبلون لوطنهم بديلا.

الهجرة المضادة

5ـ في مقابل الصمود في الارض، كان أولئك الفارون الى الملاجئ، وفي مقدمتهم منظر مضحك لقادة الحرب الثلاثة وهم يتسابقون اليها، وانصراف الكثيرين منهم للبحث عن جوازات سفرهم الاجنبية ليرحلوا، تماما كما فعلوا عام 2006 حين اصطفوا طوابير أمام السفارات الاجنبية في تل ابيب سعيا للحصول على جنسيات كانت لابائهم أو أجدادهم. وذكرت المراجع فيما بعد أن خمسين الف اسرائيلي هاجروا في حينها ولم يعودوا. ولا شك أن ظاهرة النزوح ستكون اقوى هذه المرة نظرا لإتساع دائرة الاهداف التي وصلت اليها صواريخ المقاومة، وتحسبا للاهداف التي ستصل اليها صواريخ المستقبل. هناك ضعف في المعنويات، وانحسار في الثقة في المسؤولين، مدنيين وعسكريين ورجال مخابرات، وفي قدرة الردع الاسرائيلية. ‘الى أين سنذهب؟’ اصبح سؤالا مطروحا في الصحافة الاسرائيلية.

وأذكر بهذه المناسبة أنني صادفت في نيويورك بين سواقي الاجرة سائقين اسرائيليين اعترفوا بأنهم فروا خوفا على أنفسهم وعيالهم. عوامل قلق كثيرة انتجتها المواجهات مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. القلق على المستقبل بدأ يتفاعل مع لاشرعية الوجود لإثارة أسئلة ما كانت تثار من قبل. مثلا هل هناك القدرة على الحماية، إذا بدأت الصواريخ قصيرة المدى تنهال من الضفة الغربية، على المستوطنات المبعثرة فيها وعلى التجمعات السكانية داخل الخط الاخضر؟ ماذا لو اشتدت المصادمات في الضفة الغربية مع قوات الامن الاسرائيلية وأصبحت خطوط المواصلات على اختلاف أنواعها والبنية التحتية بمجملها والمصانع والمطارات ومحطات توليد الكهرباء ماذا لو أصبحت هذه كلها أهدافا للصواريخ قصيرة المدى أو القدائف شديدة الدقة في الاصابة؟ هل تستطيع قبة حديدية حماية اسرائيل كلها من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها اذا انهالت عليها صواريخٌ وقذائف، متطورة وبدائية، من القطاع والضفة والجنوب اللبناني؟ اسئلة بدأت تطرح علنا ربما لأول مرة، وما زالت حائرة تبحث عن اجوبة لها، ولكنها كلها تثير القلق على المستقبل وتشجع المغتصب على الفرار بما يستطيع الفرار به.

في مجلس الأمن

6ـ في حرب 2006 مع حزب الله ماطلت امريكا في مجلس الامن في اتخاذ قرار بوقف اطلاق النار على أمل أن تحقق اسرائيل نصرا يفرض شروطه. وعندما فشلت سمحت امريكا لمجلس الامن بأن يتخذ قراره وفرضت شروطها الى حد كبير بسبب الموقف الرسمي اللبناني ومواقف انظمة عربية من المقاومة اللبنانية. في هذه الحرب، حرب الايام الثمانية مع المقاومة في غزة، اسرائيل واصدقاؤها، بما فيهم أمريكا، هم الذين سارعوا الى رئيس مصر العربية طالبين التدخل لدى المقاومة لوقف اطلاق النار. هم الذين قبلوا شروط المقاومة وهي التي رفضت كل شرط ارادته اسرائيل، ووقفت مصر الى جانبها، ولم يصدر هذه المرة قرار من مجلس الامن معلنا ادانته للمقاومة، ومؤكدا حق اسرائيل في الدفاع عن النفس، ومُطالبا بسحب سلاح المقاومة باعتبارها حركة ارهابية أو ميليشيا، ولا بإدانة الدول التي ساعدتها وسلحتها، ولا بحظر تزويدها بالسلاح، بالرغم من أن ايران هدف مؤكد لامريكا وللغرب عامة ولاسرائيل ونتنياهو خاصة. لم يحصل شيء من هذا لآن اسرائيل وحليفتها امريكا قد حرمتهما المقاومة من الانتصار وهزمتهما في الوقت ذاته ولأنها وجدت في مصر نصيرا، المقاومة هذه التي اعتبرها أول تصريح لاوباما وغيره من قادة الغرب بأنها معتدية وأن اسرائيل كانت تدافع عن نفسها.. في مجلس الأمن هذه المرة كانت امريكا هي التي تركض وراء المقاومة، عن طريق الرئيس المصري، طلبا لموافقتها، ولم ترفع يدها معلنة الفيتو من جانبها. للمرة الاولى تُملَى الارادةُ العربيةُ على مجلس الأمن عن بُعْد.

وأخيرا

7ـ في مجلس الأمن والاتصالات مع الرئيس المصري لم تكن الولايات المتحدة تبحث عن مصلحة المقاومة أو الشعب الفلسطيني، وانما كانت تسعى لحماية اسرائيل من جهة وللحفاظ على مصالحها هي في العالمين العربي والاسلامي من غضب الشعوب التي عادت للالتفاف حول المقاومة، من جهة أخرى. لقد اضطرت امريكا والغرب كله للاعتراف بالمقاومة كقوة فاعلة ومؤثرة في تقرير مستقبل الشرق الاوسط وحل مشاكله، ويتوجب أخذها بجدية. وهذا يعني أخذ الشرعية الفلسطينية والشعوب العربية بجدية أيضا. فامريكا التي كانت قد وافقت على العدوان الاسرائيلي، جايت وزيرة خارجيتها لتصرح في القاهرة بأن الوقت قد حان لإيجاد حل عادل ودائم لقضية الشرق الاوسط. طبيعة هذا ‘الحل العادل’ لم تعد تسعة وتسعون في المائة منه بيد امريكا كما أعلن السادات شاطبا الشعوب العربية كلها. أصبحت المقاومة والشعوب هي صاحبة القرار.

8ـ وأصبح من الضروري تكثيف المقاومة وتعبئة وعي الجماهير العربية والاسلامية أولا لتكثيف الوعي بالقضية الفلسطينية وبدَوْرِ المقاومة والجماهير العربية والاسلامية في نصرتها، وثانيا لكشف التعارض بين المصالح الامريكية والمصلحة الاسرائيلية، وثالثا للضغط على الولايات المتحدة لتغيير سياستها أو الوقوف على الحياد على الأقل والا فإن عليها أن تواجه الشعوب العربية والاسلامية قي مصالحها. الانظمة العربية ما زالت، مع الأسف، دون مستوى هذا التحرك، ولا نتوقع أن تأتي المراجعة التي قررها مجلس الجامعة العربية الا بأضعف المواقف. مقاطعة اسرائيل ورفض التطبيع معها أمر مفروغ منه ويجب العودة اليهما وتطبيقهما بدقة. وكذلك يجب سحب المبادرة العربية التي هي، على اي حال، مبدرة صهيونية في مصدرها الذي هو الكاتب الامريكي فريدمان، ولكنها أصبحت عربية تعبيرا عن حالة الهوان التي كانت تعيش فيها أنظمتنا.

نداء لسيداتنا

9ـ هذه مرحلة المواجهة، ودور الشعوب ان تتحرك، وأن يكون حراكها هذا أدوم وأبعد أثرا. وسلاح الشعوب هو المقاطعة ودعم المقاومة وفرض ارادتها على الانظمة، وفي طليعة هذا التحرك الضغط على امريكا بأقوى الاسلحة وأمضاها وهو سلاح المقاطعة التي تمس جيب كل امريكي وتفرض عليه أن يبحث عن السبب.

المقاطعة المطلوبة هي مقاطعة ما يمكن الاستغناء عنه أو ايجاد البديل له، ولو اقتضى ذلك تحمل شيء من المشقة. تصوروا لو قاطعت سيداتنا منتجات التجميل الامريكية التي تدر على شركاتها حوالي بليونين من الدولارات سنويا فقط من سيداتنا الخليجيات، ناهيك عن سيداتنا في العالمين العربي والاسلامي. حملة واحدة من سيداتنا تكفي لخلق ‘لوبي’ من هذه الشركات وحملة اسهمها يكون قادرا على التأثير المباشر على صناع القرار في الولايات المتحدة. ولا شك في أن سيداتنا قادرات على اكتشاف وسائل ضغط أخرى وربما أقوى تمس الجيوب وتؤثر على اسعار الاسهم في البورصة.عندئذ سيتحركون. المقاطعة سلاح بيد المستهلك، ولا يستطيع أي نطام أن يرغم المستهلك على شراء ما لا يريد شراءه.

10ـ هذا نداء لسيداتنا، الى اتحادات المرأة العربية في كل قطر، ندعوهن لقيادة المقاطعة هذه، وقيادة المليونيات النسائية للالتزام بها. وهن قادرات على أكثر من ذلك عندما يقررن النزول الى ساحة المعركة.

القدس العربي، لندن، 17/12/2012

مقالات ذات صلة