المقالات

دفاعاً عن فتح أم مراجعة فتح لذاتها..!!

دفاعاً عن فتح أم مراجعة فتح لذاتها..!!

وسام الفقعاوي

ما دفعني لكتابة هذا المقال أو بالأدق وجهة النظر النقدية، هو ردود الفعل الرافضة لتصريحات القيادي في حركة فتح يحي رباح، التي وصف فيها شيمعون بيرس “بأنه رجل سلام ويحظى باحترام الشعب الفلسطيني” ، وكذلك الرفض شبه العام للمشاركة الرسمية الفلسطينية في تشييع بيرس، المكونة من رئيس فتح والسلطة والمنظمة وثلاثة آخرون من أعضاء اللجنة المركزية. الكتابة عن فتح في هذا الوقت ومن مواقع المعارضة لنهجها وممارستها، يجعل الأولوية لفك اللبس عن هذه النقطة، من خلال التالي:

هل يحق لي الكتابة عن فتح؟ فتح جزء من تجربة الشعب الفلسطيني وهي ملك له وليس لنفسها فقط، بمعنى من المعاني، هي حاصل تجربة الشعب الفلسطيني في سياق تجربتها الممتده منذ عام 1965، وهذه نقطة انطلاق أولى، وكذلك تحملت “وزر” قيادة الشعب الفلسطيني منذ عام 1968، عندما تصدرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا يجعل كل فرد من الشعب الفلسطيني من حقه أن يكتب عن فتح من مواقع الاتفاق والاختلاف، وعن كل من يتبوأ موقعا عاماً، خاصة الفصائل والتنظيمات والمؤسسات التي تعمل باسم الشعب الفلسطيني وقضيته.

كيف أكتب عن فتح وأنا في موقع المعارض لها؟ بمعنى، هل سأكون موضوعيا عندما أتناولها في الكتابة، وعليه أود أن أشير أنني أتناول في مقالي قطاع واسع من الشعب الفلسطيني، ينتمي لحركة فتح الذي لا يمكن وصمه بمجمله “بالخيانة”، وإن كان الكثير من قياداتها قد تحول إلى “مقاول سياسي وأمني”، بل أستطيع القول بثقة، أن غالبية كوادر وأعضاء فتح لا زالت تختزن في داخلها بعدًا وطنياً مهماً، لعل موقفها من تصريح رباح، والوفد المشارك في تشييع بيرس، دليل مباشر على ذلك، طبعاً آخذاً بعين الاعتبار الأبعاد الداخلية والعاطفية في الأمر، وهذا لا يعنيني كثيراً، ما يعنيني في الكتابة بالإضافة لما سبق، أنني سأتتبع مسار فتح ارتباطاً ببعض شعاراتها ومقولاتها وممارستها السياسية، مستشهدا بما تيسر من كتاباتها وأقوال قياداتها، متوخياً الاستقامة الفكرية والأخلاقية.

لمن أكتب لفتح أم للشعب الفلسطيني؟ أكتب للشعب الفلسطيني حيث فتح جزء منه، ولكل من هو مهتم ومعني بالشأن الفلسطيني، لكن كتابتي تلك، ليس لمن يجيد “ديمغوجيا الشعارات” أو أصحاب “الزعبرة الكلامية” أو “الفقراء فكرياً وسياسياً” أو المتاهفتين “وطنياً وأخلاقياً” أو منشدي “الامتيازات الحصرية”.

تأسيساً على ما تقدم، أكتب عن حركة فتح من خلال عناوين/محاور بعينها، أناقشها ببعض التفصيل، متى أمكن ذلك:

فتح ومسألة الهوية: لقد تعرضت هوية فتح لما يمكن تسميته “بالاستلاب”، حيث تم ابتسارها من فلسطينيتها، التي طالما كانت تركز عليها، بداية من النظام الرسمي العربي، الذي ساهم رئيسياً في هذا الاستلاب، مع استعداد داخلي له لا شك، وصولاً للاستلاب من خلال شروعها في ما هو ضد مشروعها المعلن “تحرير فلسطين” أو ضد اسمها “حركة التحرير الوطني الفلسطيني”…، لحساب التسوية ونهجها المستمر، والتصالح مع العدو – في الوقت الذي كانت تعتبر في أدبياتها الحديث عن الحل السلمي خيانة- هذا العدو الذي لا يزال وسيبقى في نظر الفلسطيني، مُغتصب لأرضه ومُشرده وقاتله ومُعتقل حريته، مهما حاولت عمليات التجميل الوهمية تغيير وجهه القبيح هذا.

لعل ما تقدم، يفسر هذا التنافر بين “هويات” مختلفة داخل فتح، لم تقف حدود كلفتها الوطنية والاجتماعية عندها وحدها، بل طالت الشعب الفلسطيني “استلاباً واضطراباً في الهوية” وصولاً لإصابة مقوماته المادية والمعنوية في مقتل، وعليه فإن استعادة الهوية في هذه الحالة، تبدأ من وقف قانون تراكم استلابها واضطرابها لاحقاً، حتى لا نصل إلى تدميرها مستقبلاً.

فتح وتحرير فلسطين: لم يكن مشروع تحرير فلسطين مشروعاً أصيلاً في “رؤية وممارسة” قيادة حركة فتح وفي بنيتها، وإن كان حاضراً في ذهنية وخطاب الكثير منهم ومن قواعدها، وهذا الأمر ما جعلها بعد أقل من أربع سنوات على تأسيسها، تطرح مشروع الدولة العلمانية على كل فلسطين ولكل مواطنيها، بما في ذلك الصهاينة المغتصبين، وبعد أقل من ذلك بخمسة سنوات تطرح مشروع السلطة الوطنية أو النقاط العشر، ومن ثم البرنامج المرحلي ومن ثم الاعتراف بقراري مجلس الأمن 242-338 أواخر ثمانينيات القرن المنصرم… وصولاً للشروع في نهج التسوية وتوقيع اتفاق أوسلو بكل نتائجه الكارثية على تاريخ وحقوق ونضال ومستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، ليس هذا فحسب، بل العمل على خلق ثقافة ووعي وإعادة تعريف جديد للفلسطيني مرتبط بهذا النهج، الذي يضرب في العمق المفاهيم والقيم الوطنية وتعريف الفلسطيني لذاته في سياق صراعه الوجودي مع العدو الصهيوني. يؤكد ما ذهبت إليه قول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الراحل هاني الحسن: “النضال الصعب والطويل، الذي خاضته قيادة التيار الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية، وبشكل خاص ياسر عرفات، من أجل تهيئة الأرض من جانبنا للوصول إلى حل سياسي عن طريق التفاوض مع إسرائيل… من عام 1968 – أُكرر 1968- بدأ ياسر عرفات، وأؤلئك الذين كانوا زملاءه الأساسيين في فتح، بدءوا يستوعبون الواقع… أي الحاجة إلى حل سياسي إنساني لنزاعنا مع إسرائيل. وهكذا، حددنا المهمة الصعبة والخطيرة لتحضير الأرضية للوصول لحل سياسي، عن طريق التفاوض مع إسرائيل، إن سِجلّ نجاحنا في القرارات التي أصدرها مجلسنا الوطني، بين عامي 1974-1988”.

فتح والنزوع الدولاني: يبدو من سياق خطاب وتجربة حركة فتح، أن النزوع الدولاني كان يتقدم على النزوع الثوري أو “حتمية الثورة” و “اللقاء فوق أرض المعركة لأخذ المبادرة” بتعبير أدبياتها، لنجدها ركزت في المنفى على بناء مؤسسات بيروقراطية توازي في بنيتها وتشكيلاتها وعديدها مؤسسات الدولة، وفي قلبها جيش من الموظفين والمفرغين والحاشية والأتباع والمحاسيب والشلل والرموز والنياشين، إلى جانب عشرات الدوائر والاتحادات المفصلة على مقاس بعض الأفراد لا الضرورة أو الحاجة، وسيادة الذهنية المالية…الخ، إلى أن أُثقل عليها الحِمل، فلم تجد مع المتغيرات الدولية والإقليمية وكذلك الداخلية، المرتبطة بأزمة حركة التحرر الفلسطينية والحصار الذي فرض عليها، أوائل تسعينيات القرن المنصرم، إلا أن تُفرغ حِملها من خلال إدخاله من نفق اتفاق أوسلو.

إن هدف النضال الوطني الفلسطيني هو تحرير أرض وطنه وتقرير مصيره وإقامة دولته، لذلك كانت طريق ذلك الثورة، التي عنت فيما عنت، شق مسار جديد، من خلال “هانوي العربية” وليس “دولة الفكهاني”، وقيادة طليعية وليس بيرقراطية متسلطة، معبرة عن قيم سياسية واجتماعية وأخلاقية عليا.

فتح والوحدة الوطنية: الوحدة الوطنية كمرادف للقوة، التي تعني تأطيرها سياسياً وتنظيمياً، بما يوحد التنظيمات السياسية على إستراتيجية وبرنامج عمل وقواسم مشتركة، تحدد مسار العمل الوحدوي وطبيعته. فتح لم تتعامل مع هذا المفهوم، إلا بطريقة استخدامية وتوظيفية، بحيث وظفت مؤسسات الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون حاملاً لمشروعها الخاص، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعاملت باستخفاف وضرب لقرارات الإجماع الوطني التي جعلتها عرضة للنقد المستمر من عدد من القوى والتنظيمات الفلسطينية، وليس آخرها قرارات المجالس المركزية، فيما يتعلق بمنظمة التحرير وإطارها القيادي والمفاوضات والتنسيق الأمني وغير ذلك.

طبعا، لا يمكن عزل مفهوم الوحدة الوطنية، عن توفير بيئة وممارسة ديمقراطية، توفر لها الواقع والشروط الملائمة لتقوم بوظيفتها، وهذا ما لم يتوفر فلسطينياً، بل غرقنا في السياسات الفئوية القاصرة والاستبداد والفهلوة، لذلك عند ممارسة أحد أدوات الديمقراطية “الانتخابات التشريعية 2006″، تحولت إلى أداة سرعت في الانقسام الداخلي وأبعاده الكارثية المستمرة، هذا الانقسام الذي له جذوره الأبعد عند حركة فتح وحماس على وجه التحديد.

فتح والقطع مع التاريخ: طالما عبرت فتح عن نفسها بأنها “أول الرصاص وأول الحجارة…”، التي هدفت فيما أعتقد من خلالها إلى أدلجة التاريخ الفلسطيني، وجعله امتيازاً حصرياً لها، بما يقطع مع نصف قرن سابق من تاريخ النضال الفلسطيني، افتتحه أجدادنا وآبائنا بالانتفاضات والثورات المتلاحقة والنار كذلك 1920-1929-1936 وما قبلها وما بينها وما بعدها، فكان يعنيهم مواجهة الغزوة الصهيونية لأرض فلسطين، ومواجهة الاستعمار البريطاني الذي كان وَعَدهم “ببفلور” 1917، ومكنهم من الهجرة والسيطرة والاحتلال في 1948. أي بكل وضوح لا يمكن قطع نضال الشعب الفلسطيني في مراحله المختلفة، قبل عام 1965 عما بعده، كما لا يمكن القطع بين الحركة الصهيونية والإمبراطورية البريطانية الاستعمارية، أو بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية، وكل الصهاينة الجدد اليوم.

قد يحاجج البعض بغير ذلك، وهذا حقه، لكن السؤال: كم يحضر الواقع بتشابكاته في رؤية وممارسة حركة فتح؟ وكم يحضر آراء ومواقف وآمال وهموم وتطلعات الشعب الفلسطيني اليوم في أجندتها؟ فهل يمكن استيعاب الواقع/الحاضر دون حضور واستيعاب التاريخ/الماضي؟ فإذا كان الواقع/الحاضر غائباً فهل سيكون التاريخ/الماضي حاضراَ؟!

على كل حال، القطع مع التاريخ هو قطع مع الواقع ليس هذا فحسب وتجزئته، بما يناسب ذهنية انتهازية وإرادوية ومشوهة في علاقتها مع واقعها والعدو معاً، تستبيح كل المحرمات، وتخترق كل المقدسات، ولا تكتفي بالقطع مع التاريخ والواقع فقط، بل ومع المستقبل أيضاً.

فتح والجماهير: طالما رددت حركة فتح ولا زالت أنها “أم الجماهير”، ومن سياق التجربة الملموسة والمعاشة، تعاملت “الأم” مع أبنائها بذهنية وممارسة “ذكورية وبطريركية..!!”، لذلك كنا أمام توظيف شعبوي للأيديولوجيا، ودغدغة العواطف بخطابات رنانة، وتحويل الهزائم والانكسارات إلى انتصارات، وعدم الاعتراف بالخطأ ومواجهة الذات والجماهير (من قبل الأم)، وصولاً إلى النظر إليها بدونية، وتعزيز مقولة “الشعب القطيع”، وصولاً إلى “الشعب الحثالة” بحسب يحي رباح، بذلك تحولت الجماهير التي يفترض أنها المعنية مباشرة بجماعية المواجهة لهذا العدو، الذي قصدها بالتهجير والقتل على طريق نفي وجودها، إلى الانتظار على “دكة الاحتياط” في الوقت الذي يفترض أن تكون لاعب أساسي ومتقدم في المواجهة.

فتح والسياسة تنبع من فوهة البندقية: استندت حركة فتح لهذا الشعار الشعبوي والعاطفي الغرائزي، منذ بداية تأسيسها، واستمرت ترفعه لمرحلة متقدمة من عمرها، ليغدو “ثقافة معممة ومقيمة”، تمجد البندقية وتقدمها أولوية على الممارسة السياسية، التي البندقية أحد توظيفاتها وليس العكس، والأخطر من ذلك، هو تجاهل أولوية وأهمية إعمال العقل ودوره ومهمته والعلم والفكر، مقابل انتشار الأمية السياسية والارتجال والعشوائية، لذلك بدأت فتح بشعار السياسة تنبع من فوهة البندقية، وانتهت إلى كتاب “الحياة مفاوضات” لصائب عريقات، ولعل الفشل المحقق الذي يطال مختلف جوانب العمل الوطني الفلسطيني يؤكد ذلك.

فتح والقرار الوطني المستقل: هذا الشعار الذي لم تنفك حركة فتح من ترداده حتى اليوم وستستمر للغد وبعد الغد، في الوقت الذي لم يترك فيها النظام الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، زاوية في وضعنا الداخلي إلا وتدخل بها، وكذلك النظام الرسمي العربي، ولا أغالي لو قلت أن للعدو الصهيوني مساحة كبيرة للتدخل أيضاً، أم أن المقصود بهذا الشعار سلخ العرب عن فلسطين وسلخ فلسطين عن العرب، ولعل هذا ما توضحه الممارسة الجوفاء والتغييبية التي مورست بحق الجماهير العربية في عزلها عن القضية الفلسطينية، وإعطاء الفرصة للنظام الرسمي العربي لنفض يده من القضية الفلسطينية، واعتبارها تخص الشعب الفلسطيني فقط، حيث بات هذا النظام عبارة عن رجل إطفاء –إن لم يكن أكثر من ذلك وهو أكثر- بيننا وبين العدو من جهة، وبين الفرقاء الفلسطينيين من جهة أخرى. فغير أن هذا تأكيد لقصور في الرؤية أو غيابها بمعنى أدق، ولفهم الصراع وجوهره، الذي هو في أحد أهم جوانبه صراعاً بين الأمة العربية والمشروع الصهيوني، يقف في طليعته الشعب الفلسطيني، وليس مستهجناً كنتيجة، إزاء ذلك أن يجهش البعض بالبكاء على فقدان شمعون بيرس، ويدعو آخرين له أن “يرقد بسلام”، ويتسابق آخرون للمشاركة في تشييعه أو إرسال برقيات التعزية الحارة. فالقرار الوطني الفلسطيني الأصل أن يكون مستقلاً عن تدخلات هؤلاء والأعداء من إسرائيليين وأمريكان، أي كل الصهاينة.

ختاماً، ليس مهمتي أن أدافع عن فتح، بعد ما وصلت إلى واقع حالها هذا، وليس هدفي التشفي بها بالمطلق، بل عكس ذلك تماماً، لأن مهمة الدفاع تلك منوطة بفتح إن استطاعت. وأن كانت مهمة الدفاع تحتاج من فتح مراجعة تجربتها التي تعدت نصف قرن، ولم تقف أمام ذاتها لمراجعتها مراجعة حقيقة وشاملة ولو لمرة واحدة، فهل تنطلق في ذلك من كونها تمتلك أو تحتكر الحقيقية المطلقة التي لا يخطئ أصحابها، كونهم غير خاضعون لقوانين العلم والواقع أو حق المسآلة من صاحب الحق الأصلي (الشعب الفلسطيني)؟!

فما قَدَّمتُه من وجهة نظر نقدية – تقبل النقد أيضاً- بمثابة دعوة لحركة فتح أن تستعيد ذاتها بعد مراجعتها، وتبقى في كل الأحوال هذه دعوة للمستقبل، وخاصة للشباب القادر على امتلاك عقله وإرادته وانتمائه الوطني وتحديد تجاه البوصلة الحقيقي، والمنافحين عن دماء ومعاناة مئات آلاف الشهداء والأسرى والثكالى الذين سقطوا وضحوا تحت راية النضال الوطني من خلال حركة فتح، يحدوهم الأمل بتحرير الأرض والإنسان معاً.

وثمة ما يجب قوله، أن ما سجلته هنا، قد يطال في عدد من جوانبه أو بعضه أو كله تنظيمات وقوى فلسطينية أخرى، تختلف مع حركة فتح في “الرؤية والفكر والممارسة”، لكنها تماهت أو تقاطعت أو توحدت مع نموذجها، بحيث جميعنا نقف أمام حقيقة واحدة، هو فشل مستمر وكبير ومتعدد المستويات.

مقالات ذات صلة