المقالات

إسرائيل تبني دولة في الضفة!!

كثرت وتبعثرت الأوراق المختلطة في المنطقة، إلى الدرجة التي نلاحظ فيها ضعف القضية الفلسطينية والاستفراد بها إسرائيلياً وأميركياً، وتجسيد هذا الاستفراد بالمفاوضات العبثية التي قامت مؤخراً بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

أولاً هي مفاوضات في قمة العبثية، ولم يكن من المفروض على الطرف الفلسطيني أن ينجر إلى مربعها، خصوصاً وأن لا ضامن في هذه المفاوضات، والأهم أن الولايات المتحدة سلمت هذا الملف لإسرائيل حتى تقوم بما تريده وترغب فيه.

وثانياً، هي مفاوضات غائب عنها الطرف الفلسطيني، من حيث محدوديته في التأثير وسكوته عن كل “التفاهات” التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، ابتداءً بتوسيع وتسمين المستوطنات، وليس انتهاءً بمصادرة الأراضي وهدم منازل المواطنين ومواصلة سياسة الاعتقالات واستهداف وترويع الناس.

أجزم أن الاستيطان زاد بمتوالية هندسية سريعة خلال جولات المفاوضات التي انطلقت بين الطرفين، وأجزم أن هذه المفاوضات أنقذت إسرائيل داخلياً وخارجياً، من حيث الرغبة في التفاوض زائداً معها الاستجابة وتأمين مطالب المتشددين والموالين لحكومة نتنياهو.

وخارجياً، استفادت إسرائيل عبر تحسين صورتها بأنها قبلت بالمفاوضات، وأنها قدمت تنازلات تمثلت بقرار إطلاق سراح 104 أسرى فلسطينيين، أفرجت عن الدفعة الأولى، في حين تستمزج وضع المفاوضات وتقرر استكمال عمليات الإفراج والمضي في مشروع الدفعات بناءً على الموقف الفلسطيني الرسمي.

المشكلة أن المفاوضات تجرى في ظروف عربية بالغة التعقيد، وفي ظل انكفاء كل دولة على حالها، وانشغال الإعلام تحديداً بموضوعات كل من مصر وسورية وإلى حد ما تونس واليمن والعراق، ما يعني أن أولويات العرب ليست بالتأكيد موضوع القضية الفلسطينية.

الكل العربي منشغل في وضعه الداخلي، وهذا اعتبرته الولايات المتحدة فرصة ذهبية للإيقاع بالطرف الفلسطيني واستدراجه في مفاوضات تتحكم فيها إسرائيل من الأول إلى الآخر، وعلى الأرجح أنها تتحكم أيضاً بمكان انعقاد جولات المفاوضات وطبيعة الوجبة المقدمة والمشروب أيضاً.

أقصد من ذلك، أن المرحلة الراهنة تؤثر بقوة على المشهد الفلسطيني، سواء من حيث وضع المفاوضات مع الطرف الإسرائيلي، وحتى من حيث الانقسام الداخلي، وطالما ظل الوضع العربي ضعيفاً فإن حال القضية الفلسطينية برمتها في انحدار مستمر.

هذا كله ينعكس على المفاوضات، ولأنه يجري التكتم وعدم معرفة ما في بطن كل جولة تفاوضية، فإن ذلك يضع علامة استفهام كبيرة أمام حال المفاوض الفلسطيني، الذي يبدو أنه قبل ضمنياً الضغوط والإملاءات الأميركية، المتمثلة في رغبة إسرائيل تحصين وتأمين نفسها استيطانياً تحت قبة المفاوضات.

قبل أن تبدأ المفاوضات في فلسطين المحتلة، قدمت إسرائيل رسالة ثقيلة الى الفلسطينيين ومهمة بالنسبة لها، تؤكد فيها مواصلتها في المشروع الاستيطاني الذي بدأته من زمان، ولن تتوقف أو تتنازل عنه أبداً، ومع ذلك قبلت السلطة الفلسطينية بالمفاوضات.

إن السكوت الفلسطيني الرسمي عن الاستيطان جعل إسرائيل تستأسد وتزيد من استفرادها بالمفاوضات، وأصبحت طريقة التعاطي مع الاستيطان وكأن الفلسطينيين أمنوا وباركوا جميع الأعمال الاستيطانية الإسرائيلية في مختلف أنحاء الضفة الغربية.

هناك الكثير من الناس يفهمون “صفقة” المفاوضات بهذه الطريقة، خصوصاً وأن السلطة الفلسطينية لم تتخذ قراراً في حينه بتجميد المفاوضات والعودة إليها من جديد، إلا بشرط تجميد إسرائيل الاستيطان، واكتفت القيادة بالتلويح والتهديد أن ذلك من شأنه وقف المفاوضات وتدمير عملية السلام.

لماذا علينا دائماً اتخاذ القرار المناسب في الوقت غير المناسب، حتى يصبح القرار غير مناسب والوقت كذلك، فما يحدث الآن أشبه بسعار إسرائيلي لتمكين إسرائيل استيطانياً في الضفة، وكأن الحديث يجري عن بناء دولة المستوطنات في الضفة، تقوم بديلاً عن دولة فلسطين.

لكم أن تتخيلوا سيدة مثل تسيبي ليفني تصرح وتقول إن “المفاوضات مع الجانب الفلسطيني ستفضي إلى اتخاذ إسرائيل قرارات جوهرية لإنهاء الصراع بين الطرفين”. هذا التصريح أقل ما يمكن القول عنه إنه ضحك على الذقون، لأن من يريد اتخاذ قرارات جوهرية لا يكشر عن أنيابه ويطلق ذئابه على القطيع.

كيف ستتخذ إسرائيل قرارات جوهرية، وهي تحكم قبضتها على الاستيطان وتسعى بكل قوة لتهويد الضفة ومعها القدس الشرقية؟ وألا يفترض أن يسبق هذه القرارات الجوهرية نوايا حسنة وقرارات إجرائية تمهد الطريق أمام تحقيق السلام وإنهاء الصراع بين الطرفين؟

ربما كانت تريد ليفني القول إننا لن نقبل بتاتاً إقرار أي إجراءات لا تصب في مصلحة إسرائيل، وهذا الكلام مجرد رسالة للطرف الفلسطيني، حتى تحركه العاطفة باتجاه إعطائنا المزيد من الوقت لتسريع الاستيطان، في وقت تكون فيه عجلة المفاوضات غير متوقفة.

هكذا أفهم الصورة، وهو أن ليفني تريد شراء المزيد من الوقت عبر هذا التصريح الموجه للقيادة الفلسطينية، حتى لا توقف الأخيرة المفاوضات من طرف واحد، وبالتالي تكون إسرائيل حققت مصلحتين، الأولى أنها عززت وحصنت نفسها استيطانياً، والثانية أنها تواصل المفاوضات.

ثم إن هذا الابتزاز الإسرائيلي سبقه آخر أميركي، أعلنه قبل ذلك وزير الخارجية جون كيري، الذي أكد أن المفاوضات بالرغم من كل العراقيل والعُصي الإسرائيلية الموضوعة في دواليبها، نقول إن المفاوضات ماضية ولن تتوقف.

إن المضي الإسرائيلي في الاستيطان قبل المفاوضات أكثر تكلفة من مضيه أثناءها، والآن يمكن ملاحظة القرارات الإسرائيلية بالغة الخطورة التي تصرح عنها الحكومة، مستهدفةً بذلك تعزيز الاستيطان، مثل تحويل بؤر استيطانية إلى مستوطنات ثابتة.

ملف واحد مثل الاستيطان فقط، كفيل بتهديد القضية الفلسطينية ومستقبل الدولة، لأنه في المستقبل المنظور سيعني تشتت وعدم تماسك جغرافي وديمغرافي لأراضي الضفة، قد تساوم عليهما إسرائيل لاحقاً، مثلما تساوم في ملف الأسرى الذي كلما قلنا إن فاتورته بدأت تنخفض، نجد الاحتلال يعتقل ويعيد ملء السجون من جديد.

إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، وإن كانت ستمضي في هذا الخيار بالضغوط الدولية، فإنها لا تريد جاراً قوياً يتمتع بالحيوية والشباب، ولعلها تضع المتاريس حتى تمنع من تقدم أو ولادة دولة فلسطينية، ما يعني أننا أمام مخطط استراتيجي يهدف لتكويم وتحصين الاستيطان وكأن ذلك يجسد مفهوم الدولة التي تحافظ على الدولة وتؤمنها بالمصدات الاستيطانية.

لا يعني هذا أن هناك دولة استيطان ستقوم في الضفة بالمفهوم الحقيقي، إنما يقصد من ذلك أن تعميق الاستيطان سيقود في النهاية إلى إضعاف الحالة الفلسطينية والاستحكام بها، لتأمين مصالح إسرائيل وإبقاء الفلسطينيين في حالة التنفس الاصطناعي.

في كل الأحوال، هذا الاستيطان الحالي محسوب علينا فلسطينياً، لأنه كان ينبغي رفضه بالإعلان عن رفض المفاوضات، وحشر إسرائيل في الزاوية ووضعها في خانة المتسبب في هذه المجازر الاستيطانية. أسأل عن حال ضميرنا أثناء المفاوضات، بينما الجرافات تهدم وتستعد لمصادرة أرضنا ودولتنا؟

الأيام، رام الله، 23/8/2013

مقالات ذات صلة