الشتات الفلسطيني

النكبة بين سطوة الرمز وسلطة الپروپاغاندا

الإثنين 20 مايو 2019 | 06:00 ص

تظل النكبةكحدث تاريخي تحتمل أكثر من قراءة ومن زوايا متعدّدة، كونها حدث مستمر من ناحية، ومن ناحية أخرى يمتلك مخيالاً سياسياً مستمداً من قوة الرمز، فهي تنعكس في آلية التخيّل التي تؤثر في تشكيل الخيال الفردي والجمعي، في حرب المخيال الذي حقق اختراقاً نسبياً، ما زالت فصوله تتداعى بأن تفصل وتقارب بين ضحية النكبة وفاعلها! عن ضحية المحرقة ومرتكبها! وإنشاء علاقة استغلال بين الهولوكوست والنكبة، أو ممارسة النقد لما سمي “بالبوطلة النقدية”، أي تحويل هذا النقد إلى فعل بطولي إمّا ليتحرروا من عقدة الاضطهاد، أو ليقدموا عذراً لما لحق بالفلسطينيين، والذي بيّنه فيما بعد “إدورد سعيد”.

لكن هذا يدفعنا إلى توضيح ثنائية النكبة كمعنى الإنكسار الوطني ومقاومة كإنبعاث وطني وتحدي قومي قبل وبعد، لقد استخدم العدو موازين القوة الصلبة وقوته الناعمة لإحداث مقارنة ظالمة واستعان بالأساطير القديمة لإثبات شرعية تاريخية، وبهدف خلق ثقافة عامة تسعى إلى تجريد النكبة من سطوة الرمز، بمثابة إنكار صريح للحق التاريخي للفلسطينيين بأرضهم التاريخية، بل للطعن بشرعية حقهم بالمقاومة لاستردادها والعودة إليها.

كيف نحيي ذكرى النكبة؟

ظلّت صورة النكبة في الذاكرة الوطنية، يُرمز لها بقوافل النزوح والنساء التي تحمل الأمتعة، وتجر خلفها أطفال ورجل محني الظهر يعتمر الكوفية ويتكئ على عصا، ومواويل فلكلورية ونواح ومناجاة حزينة مشبعة بالحنين إلى ماضي البلاد وجمال ربوعها وطبيعتها وناسها، تستغرق صورة اللاجئ السلبي التائه في “دياسبورا” الضحايا، الممهورة بحكاية العودة والوطن والمخيم، وتتحول إلى قصائد وحكايا وسرد أدبي وسير ذاتية وتغريبة فلسطينية. بقيت ذاكرة البقاء والصمود ملتبسة وضبابية وغابت ذاكرة البطولة التي جسّدها فعل المقاومة في الدفاع عن الأرض، ولم نرَ الرجال والبنادق كونهم الوجه الآخر المغيّب للنكبة.

ما يميز ذهنية الاقتلاع والتشرّد واللجوء والهروب، عندما نستعيد ذكرى النكبة كأنها استعادة للوجع والبكائيات في المخيّلة الشعبية دون الطرف الثاني من المعادلة، للذين تشبثوا بالأرض وطردوا عنوة ودمرت بيوتهم، هناك 532 قرية فلسطينية تمّ تدميرها وتشريد وتهجير أهلها، تدمير 11 مدينة وتشريد سكانها، فهذه المدن هُدمت كلياً، فيها من قاتل حتى النهاية وجسّد بطولة حقيقية، ظلّت الجزء المضيء من المشهد، فمسؤولية الذاكرة الوطنية حفظ دروس الحدث التاريخي بوجهيه النكبة والمقاومة، المستمرة في الحياة الفلسطينية روحياً ومادياً، في السياسة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والقانون.

الپروپاغاندا وصناعة المخيال

قبل حدوث النكبة عام 1948، والرواية الصهيونية تعمل على تأكيد أن قيام الكيان هو تتويج لحركة انبعاث قومي لشعب أقام دولته المستقلة على أرض يملك معها صلات تاريخية وثيقة ووطيدة. وهناك من صدقّ هذه الرواية، وثم تقزيم حجم وهول النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني، وتصوير نتائج ما حل بهذا الشعب على أنها “نتائج مرافقة لسعي الشعب اليهودي للاستقلال وتجسيده لمبدأ السيادة القومية!” واستكملت حرب المخيال المظلم الدامي فصوله باعتبار أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، وأن العرب هم من طلب منهم الخروج، وهناك من بقي يروّج لهذه المقولة كجزء من تبرئة الذات، هي محاولة لفرض أفكار وتشكيل هوية وتلفيق ذاكرة سطحيه عمياء مضلّله ومظلمه على الواقع، والاستناد إلى فكر رجعي إقصائي قائم على نفي الآخر.

أسهمت سلطة الپروپاغاندا في صناعة المخيال الجمعي الذي وجد في الهولوكوست كذاكرة سوداء أساساً لتشكيل هوية، والعمل بسلوك الضحية المعتدى عليها ولها الحق بالدفاع عن نفسها، ليبرر حدث النكبة كأنها التراجيديا المشتركة التي تلخص ثنائية إقصائية يسعى المجرم إلى ابتداعها لفك العلاقة المنطقية بين الجريمة والعقاب، ويقودهم الخيال الزائف لإحداث واقع غير صحيح ومزيف.

لن تسقط الماسادا ثانية

لقد اكتسبت الأساطير شموليتها من هيمنة سياسية ثقافية والتي استوحيت منها الحكايات، أو طوعت الأحداث التاريخية لخدمتها، تبرز أسطورة «قلعة مسادا»، كرمز لبطولة المحارب اليهودي، وتخترع بطولة لمتمردين أمام الغزو الروماني في العام 73 من القرن الأول الميلادي، ويقف اليوم علماء آثار يهود يكشفون أن قصة مسادا البطولية لم تحدث أبداً وأنها مجرد «اختراع من محارب لم يحارب»، لكنها حكاية تمّ تلفيقها في كنف الفكر الصهيوني واستخدامها كقصة الحاجة إلى شرعية دينية توحيدية تربط اليهود بالمكان وتشبثهم به.

في المقابل، هناك حياة، واستمرار وبعث للأساطير القديمة، كما تظهر أساطير جديدة، ويتم تحويل قصص قديمة إلى نصوص حديثة، وقد تنمو بعض العناصر أو الرموز الأسطورية في بعض القصص النموذجية عن طريق الأدب والخيال المفتعل والذي خلق نوع من أدلجة التاريخ.

إنها أسطورة “سلبية” فيما ترويه من أكذوبة الانتحار والموت الطوعي بشجاعة وشهامة، ولأنها مدعاة للفخر، فهي “إيجابية” فيما يخص الوظيفة التي شغلتها في المخيال الذي يمثل فكرة الشجاعة وقيم البطولة التي ترمز إلى تفضيل الموت على حياة العبودية.

استخدام التهويل والتعظيم وتقديم البطل كأسطورة لا يمكن مقارنتها بمن كان عنصراً مهما في ماسادا الأسطورية، والمستحضرة من أدراج التاريخ ثم يجري التعبئة على أساسها بمقولة “لن تسقط الماسادا ثانية” رغم تدمير هذه الأسطورة، لكن تتسم بقدرتها على أن تكون سلبية أو إيجابية كان لها، مع مراعاة الفوراق النسبية، دوراً ووظيفة، عند الأجيال.

في دير ياسين قاتل أهلها كالأسود

سقطت دير ياسين لكنها قاتلت ببطولة حتى نفذت الذخائر والبنادق، كانت قليلة وقديمة وصدئة، لم تستقبل الغزاة بالتهليل والترحيب أو رفع الرايات البيضاء، سقطت ولكن علينا أن لا ننسى أنها قاتلت، بإعترافات في شهادة “رؤوفين غرينبرغ” من عصابة شتيرين الصهيونية ومن مهاجمي دير ياسين واصفاً ما رأى قائلاً: “قاتل العرب كالأسود وتميزوا بقنص محكم، وخرجت النساء من بيوتهن تحت النيران وجمعن الأسلحة التي سقطت من أيدي المقاتلين العرب الجرحى ونقلتها إلى المواقع الداخلية”.

“دير ياسين” و “ماسادا” بين بطولة حقيقية، ظلمت بإجتزاء الصورة كالضحية السلبية، أي الضعيفة التي لا تقوى على المقاومة، وبطولة مزيفة عن انتحار ذاتي لم يحدث، فكانت صورة المجزرة في الأسطورة صورة الضحية الإيجابية.

لقد اسهمنا نحن في إنتاجها وترويجها ليتضح سلاح المجزرة ذو حدين حين تتحوّل الضحية الفلسطينية إلى كائن سلبي بصورة الإنسان المسالم المعتدى عليه، لتتكرر الصورة بتحميل الضحية مسؤولية موتها ويتكرر القاتل بصورة البطل المنقذ ليحل إشكالاته الوجودية المعلقة والمأزومة أصلاً بسلبيتها المستدامة.

طغت ذاكرة الموت على كامل المخيّلة، نريد أن نقول قتلوا وهم نيام ولا نقول قاتلوا كي، ربما بحسن نية حتى لا نمنح القاتل عذراً للقتل، وبعدها صار للنكبة في الحياة العربية “سطوة الرمز” في نموذجين متعارضين ومختلفين زمانياً: الأولى تسلّحنا برمزية مذبحة دير ياسين وفظائعها، والتي ترسم صورة الضحية العاجزة، وتسلّح العدو الصهيوني بالمقولة الثانية زرعها في المخيال الجماعي، في تمجيد مجزرة الـ “ماسادا” كرمز لقوة المحارب العبري! يشكل لاحقاً منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز، فهو ميداناً لخرافات وأساطير وتهويمات وخيالات أنتجها كلها هذا المخيال العنصري.

في دير ياسين ١٢٠ شخص ذبحوا عند الساعة ٤ فجراً، دفعنا ثمنها دماً ولكنه كان مضاعفاً ونحن ننشغل في تعداد الشهداء والمبالغة بالأرقام وبطريقة القتل وأسلحة الجريمة وتحوّلنا كآلية استخدام التهييج وإنتاج الخوف، ممّا أثر سلباً في إحداث صدمة، وساهمت بالحرب النفسية للتهجير. كانت الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم فيما حدث عن اغتصاب النساء وبقر بطون الحوامل ورمي الجثث بالبئر وإحراق البيوت…. والخ.

والسبب في وعي المجتمع الذي ينتقي دائماً ما يتناسب مع مخيالة العام البسيط والساذج، الترابط بين الوهم والخيال، خلق التضامن لا يعني المبالغة في توصيف الكارثة، كمن يعرض رجله المتقيحة للمارة كي يستدر العطف فتكون الشفقة أو القرف، علماً أن هناك فارق كبير في أن يشفق العالم على الضعفاء ويحترم الأقوياء.

هناك أبطال أيضاً حتى لو هزمنا

يقال لا قيمة للأمم بدون أبطال، ولا كرامة لها دون رموزها الوطنية وحصول فجيعة النكبة لا يشكل نفياً للبطولة بأي ثمن ولا انتفاء للذاكرة الوطنية، بل علينا استحضارها وعدم إغفالها أو اختراعها؛ فالواقع يقول ان النكبة رمزاً للذاكرة السوداء، بل لذاكرة ناصعة تجسدت بالمقاومة وبالبطولة أيضاً، هناك أبطال حتى لو هزمنا.

علينا أن نرى الصورة الواقعية من مختلف زوايا المشهد حتى تأتي النتيجة على غير ما نصبو إليه، وتكون ذات علاقة عكسية دوماً، لو لم يكن هناك صمود وقتال لما بقي عرب ومناطق عربية في القدس وغيرها، ونموذج ما سمي يومها “مثلث الرعب” عن قرى “عين غزال – جبع – اجزم”..

كشف الأرشيف عن بطولة حقيقية في هذه القرى التي شلّت العصابات اليهودية في منطقة الكرمل – يافا، ومن ثمّ قطع المرور نهائياً. في أيار 1948 حاولت القوات الصهيونية فتح الشارع أكثر من مرة، بل أنها حاولت كسر الروح المعنوية لمقاتلي القرى من خلال محاصرتها وقصفها بشكل متقطع، ثم تطورت هذه الهجومات بعد سقوط قرية طيرة الكرمل المجاورة في السادس عشر من تموز 1948 وتضييق الخناق على تلك القرى.

تطويع المخيّلة الجمعية مجدداً

دأبت مراكز البحث والتخطيط في الدوائر الصهيونية في خوض حرب المخيال وليس الواقع فحسب وإنما في القدرة على اختراع أسطورة، وتزوير الحقيقة، وطمس التاريخ وتحويل الصورة المزيفة إلى واقع جديد، تحميه بالنص الموثق والقانوني والمنطقي في أن ينتشر ويمارس كحقيقة قانونية، خلق صورة يتم فيها تصوير تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم واقتلاعهم من أرضهم على أنه “هروب” أو “إخلاء اختياري” على أفضل الأحوال، أو أنهم باعوا أرضهم، واليوم تتواصل هذه الحرب في الزعم المتواصل أن عودتهم مستحيلة، فما من أحد يرغب بالعيش تحت سلطة دولة يعتبرها غاصبة، وأن شروط حياتهم أصبحت مرتبطة بمصالح في مكان إقامتهم التي طالت.

الإنكار الممنهج لتشكيل الصورة الذي أريد له أن يقطع ذاكرة الجيل الجديد عن النكبة، يعيد إنتاجها في ضوء “قانون القومية”، كونه امتداداً طبيعياً للسياق التاريخي والفكري الاقصائي والمنافي للديمقراطية، والذي يرفع من منسوب الجرعة العنصرية إلى مستوى التشريع وبالتطهير العرقي إلى مستوى القوننة.

إعادة إنتاج ذاكرة النكبة بإحياء ذكراها وبوجهيها المأساة والبطولة، ولن تتوقف بمجرد إصدار قانون النكبة الذي أُقر بالكنيست عام ٢٠١١، باعتبار أن إحياء النكبة نشاط معادي لمبادئ الدولة، لذلك نفسر الخط الاستراتيجي الناظم للسياسة الصهيونية في عملية التسوية؛ ويقوم على ثلاثية دولة “إسرائيل”. شعب “إسرائيل”. أرض “إسرائيل”، بوصفها تمثل الدائرة القومية للكيان، مقابل السعي لتفكيك فكرة فلسطين بين أقاليمها الثلاث الأرض والشعب والقضية.

واليوم يبرز بشكل أوضح، في ظل “فرصة” القرن المتمثلة بالخطة الأمريكية “صفقة القرن” والرامية إلى هجوم أقصوي لتصفية القضية الفلسطينية، فيرافقها التطويع الممنهج للمخيّلة الجمعية مجدداً عبر التطبيع الذهني، وتوسيع دائرتها لقبول الهزيمة، مستفيداً من بيئة الانكسار العام ونقصان المناعة القومية عموماً، والوطنية خصوصاً لتدمير البطولة، وأبلسة المقاومة وتجريم حتى الأسرى والشهداء، في مسعى لاحتلال الذاكرة الوطنية.

ذاكرة المقاومة وذاكرة النكبة

فالنكبة تكون بخسارة الذاكرة الوطنية، الهزيمة الحقيقية تعني الاستسلام لآثار وتداعيات النكبة، وذاكرة النكبة تكون بوعي دروسها، والمسؤولية الحقيقية وراء استمرار مفاعيلها والمقدمات التي قادت إلى هذه النتائج، لأن الهزيمة لا تحصل من الحرب، بل تأتي قبلها!

وكونها ذاكرة حيّة معاشة لم تمت وتمجد سطوة القوة في واقع قد حدث وليس في أسطورة لم تحدث، لمحارب قاتل فعلاً وحفظ الواجب وإن خسر الحرب، في حماية رمزية البطولة ذاكرة المقاومة التي كانت وستبقى مستمرة في الصورة الجميلة لتاريخ فلسطين، وإن تتجدّد في الحاضر فهي امتداد للماضي، لأنها القوة الروحية والمعنوية وفخر الأمة حتى نسترد فلسطين ونزيل آثار النكبة، ولكن قبل كل ذلك “لن تسقط ذاكرة المقاومة ثانية”.

مقالات ذات صلة