المقالات

نحو مفهوم جديد للاشتراكية

بقلم: الدكتور نزار محمود

اعتدنا أن نفهم الاشتراكية كمفهوم اقتصادي بالدرجة الأساس. لكنني اليوم أريد أن أذهب أبعد في تأصيل الاشتراكية كمفهوم إنساني سياسي واجتماعي وثقافي.

فالاشتراكية كونها نظام للبشر فلا بد إذن وأن تتعامل بالمحصلة مع جميع الجوانب الإنسانية المختلفة لهؤلاء البشر من روحية ونفسية وبيولوجية وعاطفية. ولعلي لا أخطىء إذا ما ادعيت أنه كان واحداً من أكثر العوامل التي أدت إلى إنهيار التجربة الاشتراكية الشيوعية هو أنها لم تفهم الاشتراكية فهماً شمولياً روحياً وعقلياً ونفسياً ووجدانياً، نظرية وتطبيقاً، بالمدى المطلوب في تعاملها مع الإنسان. فأمنية “لينين” أن يتحول العمل عند الإنسان إلى حاجة نفسية لا يستطيع العيش دون إشباعها، بقيت عند الغالبية من أبناء مجتمعات الاشتراكية الشيوعية أمنية قاصرة ونظرية. كما أن شعار: من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته، لم يكن شعاراً أيده ودعمه واقع الحال، وإنما بقي حبيس رفوف الفكر والنظرية عند الغالبية، كما لم يسعف كثيراً “الترقيع” الوقتي والمحدود للشعار ؛ ولكل حسب إنجازه.

فالاشتراكية ينبغي أن تكون ثورة في العقل والنفس وانقلاب على الذات في أنانيتها الفردية واستعداد للعطاء الفردي والجماعي من أجل صاحبها ومجتمعها. فهي إذن ليست عطاءً ليس لصاحبه فيه نصيبه المتميز، وليست عطاءً لا نصيب منه للآخرين.

وقد يستوقفني أحدهم، فيقول: وما الجديد في ما تدعي؟ ألم يكن ذلك في النظام الاشتراكي الشيوعي، وهل لا تستوفى ضرائب للدولة والمجتمع من الكاسبين في النظام الرأسمالي؟ سأحاول الإجابة على هذين السؤالين في سياق عرضي في المقال.

لقد حملت النظرية الشيوعية أفكاراً وعرضت تصورات حول جوانب كثيرة في الإنسان والحياة وقوانين تطورها. أول هذه التصورات الأساسية شكلها موقف الشيوعية من الغيبيات والأديان التي تستند عليها لتنتهي بحصيلة إنكارها وتصنف نفسها على أنها نظرية علمية، وتكنى تبعاً لموقفها من الدين والغيبيات بالالحادية. فلا إله خالق، ولا حياة أخرى، ولا قيامة فيها حساب، وبالتالي لا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، كما حملته الكتب السماوية الرئيسية الثلاث، أو ما تضمنته مدونات أنبياء الديانات البشرية.

وكان فهمها للإنسان باعتباره أحد منتجات الطبيعة في مرحلة من مراحل تطور كائناتها. فهو كائن يولد وفق سياقات قوانين الطبيعة، يعيش ليموت مودعاً مرحلة حياته الحية.

وحيث أنه في حاجاته يعيش ضمن مجتمعات بشرية متشابهة فلابد من تنظيم لعلاقاته مع أقرانه من البشر.

وفي تفسير تطور حياة الإنسان وعلاقاته اعتمدت النظرية الشيوعية تطور قوى الإنتاج في عنصريها: علاقات الإنتاج ووسائله، أساساً لذلك التطور، حيث السبيل لإشباع حاجات الإنسان.

وهكذا فقد شكلت مسألة الملكية، وبالخصوص منها، ملكية وسائل الإنتاج، أساساً في هذه النظرية، والتي تقوم عليها علاقات الإنتاج في توزيع عائداته من فائض القيمة المنتجة وغيرها.

وفي حدود مقال لا يمكنني التطرق إلى ما ارتأته النظرية الشيوعية في جوانب الحياة الأخرى من أخلاقية وأسرية وتربوية وتعليمية وصحية وأمنية، ولا إلى ممارساتها العملية طيلة فترة تسلمها السلطة السياسية في عدد من دول أوروبا الشرقية والصين وكوبا وغيرها.

أما النظام الرأسمالي فإنه قام على مبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وغيرها والحرية الفردية وآليات السوق التنظيمية، ودور الدولة في معالجة الانحرافات والأزمات والضرورات، مستعينة بنظام الضرائب والرسوم بالدرجة الأساسية في تمويل أجهزتها.

وفي تقديري المتواضع، وبعد ما شهدناه من إنهيار للمنظومة الاشتراكية الشيوعية وكذلك الاشتراكية القومية العرقية، ناهيك عن الدينية أو المذهبية، وما شهدناه من تطور مذهل لقوى الإنتاج في ظل النظام الرأسمالي، غير متجاهلين العوامل المساعدة لذلك التطور في شرعيتها ولا شرعيتها، وفي عدالتها كذلك، فإنني أستطيع القول أن النظام الاشتراكي الشيوعي، نظرية وتطبيق، لم يكن واقعياً في تعامله مع الإنسان في كينونته البشرية، كما نجح النظام الرأسمالي، رغم ما خلفه من كوارث وحروب، وما يخشى أن يسببه من مصائب لا يمكن تقدير مداها.

إننا كبشر نعيش على هذه البسيطة أصبحنا ندرك ونتلمس حاجتنا لبعضنا، ونقتنع أن لا سبيل لأمن وسلام وسعادة البشرية إلا من خلال تشاركيتها في بناء وحفظ ذلك الأمن والسلام وتلك السعادة.

إننا اليوم بحاجة إلى مفهوم جديد للاشتراكية، إنساني في روحه ومضمونه وهدفه، ومحفز في التطوير الدائم لقدرات الإنسان وإبداعه.

برلين، ٦/٥/٢٠٢٠

مقالات ذات صلة