المقالات

حنين إلى الزعتر … ومخيّمه وأبطاله

من بين المصابين, كان “أبو أمل”, وقد رفض الخروج حتى للمداواة والعودة, وقاتل مع الفدائيين حتى اللحظة الأخيرة. كانت عصابات الكتائب مصممة على الوصول إليه, حيا أو ميتا, لحقدها الشديد عليه, إزاء الصمود البطولي الذي واجهها به أثناء حصار قواتها للمخيم. وحين سقوط المخيم حينما دخلوه وجدوه ممددا في سريره ينزف, وأثناء اقتحام غرفته, بادرهم بإطلاق النار فقتل ثلاثة منهم. حملوه معهم, وربطوه في سيارتين, سارتا في اتجاه متعاكس فاستشهد بطريقة إجرامية بشعة.

د. فايز رشيد
د.فايز رشيد

حين يتحول المخيم إلى فجيعة وقصيدة, يئن التاريخ وجعا في الرحلة المضنية, وقد ابتدأت منذ التهجير القسري لأهلنا, ومستمرة في حاضرنا, معاناة وقتل, ومحاولات حثيثة لإبادة المخيم من أجل قتل الحلم بالعودة, تلك التي رضع الفلسطيني حليب حلمها, لتتحول قاموسا ونضالا مضنيا من أجل تحقيقها. البعض لا يحاول فقط اغتيال أجسادنا وإزاحتها من الوجود, بل يحاولون قتل أحلامنا الإنسانية, بالعودة إلى الأرض التي مشى عليها أجدادنا وآباؤنا, وزرعوا فيها شجرا, أزهرت أشجاره انتماءً لها, ولفلسطين الأزلية الخالدة تاريخا وعروبة وكنعانية ناهضة! فكيف لا يحمل الفلسطيني المهجّر عنوة, مفتاح بيته؟ ليكون لا ذكرى فقط لزمن مضى, بل ليحوله دافعا ومحركا لأبنائه وأحفاده, من أجل تحقيق الحلم, وترجمته إلى عودة حقيقية, عودة مكللة بالنصر والزهر, إنها العودة إلى المنبع, إلى رحم الأرض, إلى الوطن الفلسطيني الجميل.

في مثل هذه الأيام (أواخر حزيران/ يونيو 1976) بدأ حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني, من قبل القوات اللبنانية التي تألفت من: حزب الكتائب بزعامة بيير الجميل, وميليشيا النمور التابعة لحزب الوطنيين الأحرار بزعامة كميل شمعون, وميليشيا جيش تحرير زغرتا بزعامة طوني فرنجيه, وميليشيا حراس الأرز, وبإشراف مباشر من سادتهم آنذاك. لقد بدؤوا يقصفون المخيم بالمدفعية وبكل أنواع الأسلحة, ذلك بعد أن تم قطع الماء والكهرباء والطعام عن ساكنيه, ولمدة زادت عن (52) يومًا, تعرض خلالها الأهالي لقصف يومي عنيف ومركّز, ومُنع الصليب الأحمر من دخوله. وقد طالب أهالي المخيم حينها, بإصدار فتوى تبيحُ أكلَ جثثِ الشهداء, كي لا يموتوا جوعا! ورغم الجوع والموت, أبى فدائيوه بقيادة المرحوم الشهيد محمد عبدالكريم الخطيب “أبو أمل”, عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية, وأحد أهم قادتها العسكريين, وقائد القطاع الشرقي من منطقة بيروت, الذي كان يضم النبعة وتل الزعتر خلال السبعينيات, أبوْا الاستسلام (وقد وُصف أبو أمل حينها بـ”أسطورة الصمود في تل الزعتر”). كان القائد المجرّب يزرع الأمل والصمود بين أهالي المخيم, الذي لم يتلق المساعدة من أحد, ورُفضت للأسف خطة كانت معدّة وجاهزة لفك الحصار عنه!

بعد حصار بشع وعنيف, جرى إبرام اتفاق بين القوات اللبنانية والمقاتلين الفلسطينيين في داخل المخيم في 6 آب/أغسطس1976, يقضي بخروج المدنيين والمقاتلين من المخيم, دون أن يستسلموا للميليشيات المارونية, وتتكفل بهم قوة الردع العربية والصليب الأحمر, اللذان سيزودانهم بوسائل النقل اللازمة. لكن, في السابع من ذات الشهر, غدرت القوات المارونية اللبنانية بالفلسطينيين الذين كانوا متحصنين في المخيم, وذلك عندما فتحت ميليشيات القوات اللبنانية النار على جميع سكان تل الزعتر وهم يغادرون المخيم عزلا من السلاح وفقا للاتفاق المعهود, حاصدين بضع مئات من الأشخاص, بينما انقضّ آخرون على داخل المخيم, وراحوا يطلقون النار على كل من يصادفون, وفي الوقت نفسه راح سواهم يوقفون الناقلات التي تراكم فيها الناجون على الحواجز المنصوبة على الطرقات, وينتزعون من داخلها حديثي السن الذين يشتبهون في كونهم فدائيين ثم يقتلونهم بوحشية أو يقتادونهم إلى جهات مجهولة.

من بين المصابين, كان “أبو أمل”, وقد رفض الخروج حتى للمداواة والعودة, وقاتل مع الفدائيين حتى اللحظة الأخيرة. كانت عصابات الكتائب مصممة على الوصول إليه, حيا أو ميتا, لحقدها الشديد عليه, إزاء الصمود البطولي الذي واجهها به أثناء حصار قواتها للمخيم. وحين سقوط المخيم حينما دخلوه وجدوه ممددا في سريره ينزف, وأثناء اقتحام غرفته, بادرهم بإطلاق النار فقتل ثلاثة منهم. حملوه معهم, وربطوه في سيارتين, سارتا في اتجاه متعاكس فاستشهد بطريقة إجرامية بشعة. من ناحية أخرى, كم وددت من صميم قلبي, الكتابة عنه في “زمن الكبار”, لكنني للأسف لم ألتقِه. التقيت فيما بعد بأحد أبطال الصمود في مخيم تل الزعتر, وهو الكبير الجميل العزيز “عدنان أحمد عقلة” المعروف بـ”أبو أحمد الزعتر”, صاحب السيرة النضالية المشرقة, من الرعيل الأول من المناضلين الأشاوس, الذين تصدوا لكل ما كان يعتبر مستحيلا, لقد اقترن المرحوم أبو أحمد بالفعل النضالي في أحداث ومعارك الصمود الكثيرة التي خاضها في بيروت, وبخاصة في مخيم تل الزعتر, مثل رفيق عمره أبو أمل, ولذا كان من الطبيعي أن يقرن اسمه بأسطورة صمود تل الزعتر, والأخير هو أولا وأخيرا رمز لفلسطين.

كان من الطبيعي, أن يكتب نبيّ الشعر الفلسطيني محمود درويش قصيدته عن المخيم, ويقول فيها: “ليدين من حَجَر وزعترْ.. هذا النشيدُ .. لأحمدَ المنسيّ.. بين فراشتين.. مَضَتِ الغيومُ.. وشرّدتني.. ورمتْ معاطفها الجبالُ.. وخبّأتني.. نازلا من نخلة الجرح القديم… إلى تفاصيل…البلاد… وكانت السنةُ انفصال البحر.. عن مدن الرماد.. وكنتُ وحدي…ثم وحدي …آه يا وحدي؟ وأحمدْ.. كان اغترابَ البحر.. بين رصاصتين… مُخيّما ينمو, وينجب زعترا ومقاتلين.. أنا الرصاصُ.. البرتقالُ الذكرياتُ.. وجدتُ نفسي.. قرب نفسي.. فابتعدتُ عن الندى.. والمشهد البحريّ.. تل الزعتر الخيمهْ… وأنا البلاد.. وقد أتَتْ.. وتقمّصتني…. وأحمدُ العربيّ يصعد.. كي يرى حيفا, ويقفز خطوتين”.

ما يلفت الانتباه في القصيدة, إضافة إلى روعة معانيها, إصرار الشاعر على إلحاق كلمة العربي بـ أحمد, صحيح أنه فلسطيني, لكنه العربي أصلا. نتذكركم أبطالنا, يا من تشكلون زادا معنويا لشعبنا ومقاتلينا ومناضلينا في كل الساحات, لبذل الغالي والنفيس, على طريق تحرير وطننا الفلسطيني الجميل, من براثن هذا العدو المابعد فاشي وعنصري, وأقسم أننا سنقتلعه من أرضنا, حتى وإن طال المشوار.

في آراء 25 يونيو,2017

مقالات ذات صلة