المقالات

من مفاوضاتٍ بلا مرجعيّة … إلى انتخاباتٍ بلا وحدة

من مفاوضاتٍ بلا مرجعيّة … إلى انتخاباتٍ بلا وحدة

هاني المصري

بعد مرور 24 ساعة على إعلان القيادة الفلسطينيّة رفضها لاستئناف المفاوضات، أعلن جون كيري من عمّان بعد زيارة خاطفة إلى رام الله عن استئناف المفاوضات مطلع الأسبوع القادم، بعد شطب الشروط الفلسطينيّة الثلاثة لاستئناف المفاوضات؛ مقابل ضمانات أميركيّة كانت شفويّة وأصبحت مكتوبة بشأن مرجعيّة المفاوضات، بحيث تجري على أساس حدود 1967 مع تعديلات متبادلة، وتقليص البناء في المستوطنات، وإطلاق سراح أسرى، على أن تستغرق المفاوضات من ستة إلى تسعة أشهر.

الانهيار في الموقف الفلسطيني كان سريعًا ومن دون تفسير وغير منظم، لذلك نلاحظ أن الناطقين باسم القيادة الفلسطينيّة لا يزالون ينفون ما أعلنه كيري بأن هناك استئنافًا للمفاوضات، وادّعوا أنّ ما سيجري في واشنطن هو استكمال لبعض التفاصيل لبلورة شروط استئناف المفاوضات؟! وكأن مرجعيّة المفاوضات وتجميد الاستيطان مجرد تفاصيل يمكن إعلان استئناف المفاوضات من دون الاتفاق عليها.

لماذا وافق الرئيس “أبو مازن” على استئناف المفاوضات مع تجميد التوجه إلى الأمم المتحدة بلا إجماع وطني ومن دون التزام إسرائيل بأي من الشروط الفلسطينيّة التي تتردد منذ سنوات؟ حتى مسألة إطلاق سراح الأسرى المرجعيّة فيها هي إسرائيل التي ستطلق سراح جزء من أسرى ما قبل أوسلو وغيرهم، على أربع مراحل تبدأ الأولى منها في بداية الشهر الثاني لاستئناف المفاوضات.

إن “أبو مازن” وافق على ذلك، لأنه يؤمن بأن لا خيار إلا خيار المفاوضات، لأن المفاوضات هي التي تعطي الشرعيّة والدعم للسلطة. ومن دون مفاوضات تخلق عمليّة سياسيّة تحول دون حدوث انفجار فلسطيني، يضاف إلى سلسلة الانفجارات التي تشهدها المنطقة، ستفقد السلطة مبرر دعمها ووجودها ومصدر شرعيتها، لذلك يعود دائمًا المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات مقدمًا في كل مرة تنازلات جديدة تهبط بالسقف الوطني حفاظًا على السلطة، فالسلطة أصبحت هي الغاية وليست الوسيلة لتحقيق الهدف.

مسألة أخرى تساعد على تفسير القرار الفلسطيني الفردي والغامض والمتلعثم باستئناف المفاوضات، هي أن القيادة الفلسطينيّة تخشى من أن تقوم الإدارة الأميركيّة بلوم الفلسطينيين على فشل جهود كيري؛ ما يؤدي إلى وقف المساعدات للسلطة، وفرض عقوبات أميركية وإسرائيليّة عليها، ربما تصل إلى تجميد العلاقات معها، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيارها. فلسان حال القيادة الفلسطينيّة يقول إن ضرر عقد جولة أو جولتين أو عدة جولات من المفاوضات أقل من عدمها، مع أن الحقوق لا تقايض بأي شيء، بما في ذلك الإفراج عن الأسرى الذين يجب ألا يكون تحريرهم قضيّة تفاوضيّة، وإنما من خلال وضع إستراتيجيّة تكفل تحريرهم مع الحفاظ على القضيّة التي أسروا من أجلها.

مسألة ثالثة، تجرب السلطة الضمانات الأميركيّة للمرة التي لا أعرف عددها، من دون أن تأخذ العبرة من تجاربها السابقة، فلقد لدغت مرات ومرات ومرات ولا تستفيد من التنصل المتواصل من الوعود الأميركيّة المكتوبة وغير المكتوبة؛ من اتفاق أوسلو وملحقاته الذي لم يطبق 34 التزامًا منها، إلى اتفاقيّة واي ريفر، وقمة كامب ديفيد، ومباحثات طابا، وخارطة الطريق، ووعود بوش الابن ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، إلى وعود أوباما في فترة رئاسته الأولى، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن مصير ضمانات كيري ستكون مختلفة هذه المرة.

مسألة رابعة، تظهر في وجود “تصور فلسطيني وعربي” بأن الإدارة الأميركيّة يمكن أن تمارس نوعًا من الضغط على إسرائيل لدفعها لتليين موقفها بما يمكن من التوصل إلى تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، استفادة من المتغيرات العربيّة التي أدت حتى الآن، على الأقل، إلى إضعاف معسكر الممانعة العربي وتقوية معسكر الاعتدال. فسورية تعاني من حرب أهليّة، والإخوان المسلمون بلغوا ذروة قوتهم بالفوز في تونس وبالانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة في مصر، وبدأوا بالهبوط بدلالة عزل مرسي وما يجري في مصر حاليًّا من سقوطٍ مدوٍ لحكمهم، و”حماس” في وضع لا تُحْسَدُ عليه، وحزب الله انخرط في دهاليز الحرب السوريّة، وإيران في موقع الاستعداد للدفاع عن نفسها في وجه العقوبات والتهديدات بالحرب ضدها إذا لم توقف برنامجها النووي.

مسألة خامسة، ما دفع السلطة لاستئناف المفاوضات بلا مرجعيّة سيل لعابها من أجل حصولها على المليارات الأربعة التي وعد كيري بها، خصوصًا في ظل الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي تعصف بها.

في هذا السياق، نستطيع أن نفسر لماذا عندما تتوقف المفاوضات العلنيّة، يكون البديل دائمًا مفاوضات سريّة أو مفاوضات يتم تسميتها بـ “مباحثات” أو “استكشافيّة” أو “تقريبيّة”، أو تأخذ شكل لقاءات يعقدها الرئيس وقيادات فلسطينيّة مع شمعون بيرس أو تسيبي ليفني أو قادة أحزاب أو أعضاء كنيست، هذا طبعًا عدا عن التنسيق الأمني المستمر في كل الظروف والأحوال.

لو تم استئناف المفاوضات من دون شروط ومع الحفاظ على التوجه الفلسطيني نحو الأمم المتحدة لكان ذلك أفضل بكثير أو أقل سوءًا من استئنافها بالكيفيّة التي جرت، فمن من أهم الأخطاء التي ارتكبتها القيادة الفلسطينيّة تقديم تنازلات، من خلال الإمعان في موافقتها على تحييد القانون الدولي والمجتمع الدولي، عبر الفصل ما بين الاستيطان في القدس والكتل الاستيطانيّة الكبرى، وبين الاستيطان في بقيّة الأراضي المحتلة، ما يضفي الشرعيّة على الاستيطان فيها، ويشكل سابقة قابلة للتكرار في المستقبل إزاء مستوطنات جديدة.

إن الحفاظ على السلطة هو الذي يفسر: لماذا العودة دائمًا إلى استئناف المفاوضات؟ فمن دون مفاوضات تكون السلطة مهددة بالانهيار. فالسلطة المقيدة بقيود أوسلو ليست مجرد تجسيد للهويّة والكيان وإنما تستجيب لمصالح ونفوذ أفراد وشرائح ازدادوا غنى وثروة. فالسلطة أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني، ولا بد من التفكير بسياسة جديدة إزاءها إذا أردنا التقدم إلى الأمام.

يسعى كيري الطموح والمثابر إلى توظيف المتغيّرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وهذه المحاولة على صعوبتها، إلا أنّ لديها فرصة لا بأس بها للنجاح إذا ما تجاوبت معها إسرائيل، وأدركت حجم المكاسب الهائلة التي يمكن أن تحصل عليها إذا جارت كيري في مساعيه ولم تفضل انتظار وقت آخر، على أمل أن يصبح الوضع الفلسطيني والعربي أسوأ بكثير عمّا هو عليه الآن للعرب وأفضل لإسرائيل.

إن حلم كيري بصنع السلام وشغفه بالحصول على جائزة نوبل للسلام سيدفع ثمنه الشعب الفلسطيني، ولن يترجم بالضغط على إسرائيل، لأن قيمة إسرائيل للولايات المتحدة ترسّخت وازدادت بعد زلزال التغييرات في المنطقة العربيّة التي أظهرت أن إسرائيل هي الحليف الدائم والمضمون والمستقر للولايات المتحدة.

لا يوجد ما يسمح بالتفاؤل بأن المفاوضات الثنائيّة ستنجح في ما فشل كيري بالتوصل إليه لضمان شروط مناسبة لاستئنافها. فالمفاوضات انطلقت من دون أسس ولا مرجعيّة ولا ميزان قوى، وفي ظل الضعف والانقسام الفلسطيني وتآكل الشرعيّة الفلسطينيّة والغياب العربي واللامبالاة الدوليّة، ولا يمكن أن تقود سوى إلى إضاعة الوقت وإعطاء الشرعيّة لما تقوم به إسرائيل من فرض حقائق احتلاليّة واستيطانيّة، وأقصى ما يمكن أن تصل إليه حل تصفويّ انتقاليّ أو نهائيّ للقضيّة الفلسطينيّة.

***

ما سيزيد الطين بلة الاحتمال المتزايد باندفاع القيادة الفلسطينيّة – كما لوّحت مؤخرًا – وراء إجراء انتخابات في الضفة من دون وفاق وطني؛ من أجل إضفاء الشرعيّة المفقودة على المفاوضات، وعلى ما يمكن أن تسفر عنها من اتفاقات.

إن الانتخابات في ظل الظروف الفلسطينيّة الراهنة لن توفر الشرعيّة للقيادة الفلسطينيّة، لأنها ستُقاطَع من “حماس” والجهاد الإسلامي، وربما من فصائل وشخصيّات أخرى. و”حماس” من دون مصالحة ستمنع إجراءها في غزة، ما يعني أنها ستكرّس الانقسام وتحوّله إلى انفصال دائم. فالمطلوب إيجاد مخرج لـ”حماس” من ورطتها الكبيرة الراهنة، تساعدها على الانضواء في مظلة الوحدة الوطنية بدلًا من سلوك خيارات أخرى ستعمّ أضرارها على الجميع.

إن المجلس التشريعي المنتخب في الضفة فقط، حتى لو ضمت اللوائح نوابًا من غزة، لن يجدد شرعيّة السلطة المتآكلة، كما أن الرئيس القادم المنتخب من جزء من الضفة الغربيّة، سيصبح رئيسًا لجزء من الفلسطينيين بينما هو الآن رئيس الفلسطينيين جميعًا، لذلك نحذر من الإقدام على قفزة في المجهول بعقد انتخابات وظيفتها إضفاء الشرعيّة على مفاوضات تفتقر لأي شرعيّة.

فالانتخابات لا يمكن أن تكون خطوة إلى الأمام من دون أن تكون جزءًا من خطة وطنيّة للتحرير والعودة والوحدة وإنجاز الاستقلال الوطني، ولن تكون حرة ونزيهة ما لم تتوفر أجواء مناسبة لإجرائها، تتيح الترشيح والانتخاب بكل حريّة. أما بدعة التصويت الإلكتروني تحت الاحتلال وفي ظل رفض سلطة الأمر الواقع في غزة فما هي إلا وسيلة للتضليل لا أكثر.

إن الشرعيّة الفلسطينيّة لا تستمد في فلسطين المحتلة من صناديق الاقتراع فقط، وإنما من التمسك بالأهداف والحقوق والمصالح والكفاح من أجل تحقيقها، ومن التوافق الوطني عليها والقبول الشعبي لها.

الأيام، رام الله، 23/7/2013

مقالات ذات صلة