المقالات

النخبة السياسية الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني

النخبة السياسية الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني

رائف حسين – المانيا

ما زالت المواطنة في شرقنا كلمة سحرية نادرة وما زالت أُمنية يصعب تحقيقها ان لم نقل ان الوصول اليها ضمن هذه الأجواء السياسية وهذه النوعية من النخب السياسية شبه مستحيل. علاقة النخبة السياسية في الشرق العربي بالمواطن هي علاقة تابع ومتبوع، علاقة فوق وتحت وفي بعض الأماكن يمكننا ان نكون صريحين مع أنفسنا ونتكلم عن علاقة سيد وعبد.

النخبة السياسية لا تتعامل بالند مع المواطن بل تنظر اليه كاداة تستعمله متى شاءت وأن دعت الحاجة تأتي به لساحة العمل الوطني للوصول الى أهداف تخدم مصلحة النخبة بالدرجة الاولى.

العلاقة في الشرق بين الحاكم والمحكوم هي علاقة فوقية استعلائية بعيدة كل البعد على ان تكون كما هي في المجتمعات الديمقراطية العلمانيه المتحضرة. في هذه المجتمعات ترى النخبة السياسية في المواطن الجزء الأهم بالمجتمع لهذا نراها تتسارع وتصرف جهوداً عالية لكسب وده بمشاركته بالقرار والتوجه الوطني وتتنافس النخب السياسية بينها لكسب رضى المواطن ورضى مؤسساته المدنية لتحصل عل دعم وثقة لها ولبرامجها السياسية والاجتماعية. وتراها تعمل يداً بيد مع قوى المجتمع المدني بما فيها من مصلحة مشتركة وتحاول النخب ان تشارك هذه القوى القرار وتستنجد بها في عدة مجالات وتأخذ برأيها في مفاصل عمل مهمه بالحياة السياسية والاجتماعية.

على النقيض من هذا نحن في الشرق. عندنا يركض ويضنى المواطن لكسب ود النخبة السياسية ورضاها.

المواطن في الشرق ينقسم بتعاطيه مع النخبة السياسية واجهزتها الى ثلاث فئات: اما انه يخاف النخبة السياسة ويتفاداها لكف شرها عنه شخصيا او عن عائلته وعن اعماله، او انه يحتقرها ويحسدها ويعتبرها دخيلة على المجتمع وغير امينه على ثروات ومصالح الوطن والشعب لبعد واقعها عن واقع المجتمع وواقع المواطن العادي، او انه لا مبالي بالوضع لانه سٓأِمٓ من تقليص الفجوة بينه وبين النخبة السياسية ويعتبر ضمنياً ان عالمه وعالم النخبة السياسية يمشيان في مسارات متوازية لا شراكة بينهما.

فلسطين المحتلة في قلب الشرق العربي وهنا لا اقصد فقط سياسياً او جغرافياً بل ايضا واقعياً فعلاقة النخبة السياسية بالمواطن لا تختلف ابدا عن تلك في بلاد الشرق. لا بل ان هذه العلاقه تأخذ منحى دراماتيكي خاص كون فلسطين محتلة وكون المواطن ينطلق تلقائيا، وهو محق بنظرته، ان النخبة السياسية عليها أولاً ان تقود حركته لتحرير الوطن وان تتصرف بطريقة اخرى عن اخوتها في الشرق وترى في المواطن ومؤسسات المجتمع المدني السند الأساسي لمعركتها السياسية والعمود الفقري للنضال من اجل احقاق الحقوق الوطنية.

الواقع في الحالة الفلسطينية لا يختلف ابدا عن الحال في عموم الشرق العربي، درجة المُواطٓنة يحددها قربك او بعدك كمواطن عادي من النخبة الحاكمة او انتمائك للحزب او العائلة المتسلطة.

في فلسطين المحتلة تسود علاقة تنافس مقيته، مضرة وهدامه بين النخبة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. النخبة السياسية ترى في مؤسسات المجتمع المدني وحراكها الجماهيري خطر دائم على مصالها وحجر العثرة الأكبر امام تثبيت سلطتها واستمرارها. ومؤسسات المجتمع المدني ترى بالنخبة السياسية العائق الأساسي امام أخذ دورها في تطوير المجتمع والمشاركة الحقيقية في رسم برنامج التحرر من الاحتلال وبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية العلمانية. ليس هذا فحسب ففي فلسطين تتعامل النخبة السياسية مع مؤسسات المجتمع

المدني، ان دعت الحاجة، كاداة لمحاربة الأطراف السياسية الاخرى وذلك عبر خطوات ووسائل عدة. وتصبح النخب السياسية خصوصاً المتسلطة خلاقة في استغلالها واستعمالها لمؤسسات المجتمع المدني للوصول الى مأربها التسلطي.

في المهاجر وخصوصاً في تلك التي يقطنها عدد كبير من الفلسطينيين كأوروبا تتجلى للداني والقاصي العلاقة المتأزمة بين القسم الأكبر من النخبة السياسية الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني العاملة في الساحة الأوروبية. من عملنا السياسي وانخراطنا بمؤسسات المجتمع المدني على الساحة الأوروبية منذ اكثر من عقدين نستطيع ان نصنف تعامل النخبة السياسية مع مؤسسات المجتمع المدني الى اربع انواع:

· تلك النخب التي ترى في مؤسسات المجتمع المدني، من جمعيات واتحادات جماهيرية وجمعيات صداقة، وسيلة واداة لتثبيت نفوذها السياسي بين ابناء الشعب الفلسطيني في المهجر ورافعة داعمة لزيادة عدد مندوبيها وقوتها في مؤسسات القرار الفلسطيني (م ت ف، السلطة الوطنية الخ) ليس الا. ومتى سنحت الفرصة للحصول على النفوذ والتسلط دون مؤسسات المجتمع المدني يتم التخلي عن الاخيرة وهم لا يكتفوا بهذا بل يقوموا محاربتها بشتى الوسائل وان دعت الحاجة أيضاً يعملوا على شطبها تحت شعارات رخيصة. هذا ما حصل بعد التوقيع على اوسلو، آنذاك صدرت تعليمات ومراسيم من اعلى هرم القيادة الفلسطينية لهدم الاتحادات الجماهيرية التي كانت العمود الفقري للعمل الوطني الفلسطيني في المهاجر. أتى هذا القرار بعد ان تٓيّٓقن أصحابه بان م ت ف وضعت في القبو والمجلس الوطني تم تنويمه مغناطيسياً لفترة طويلة بعد إقامة السلطة الفلسطينية وبهذا لم تعدد حاجة لمؤسسات جماهيرية تقف عقبة امام المشروع السياسي الفلسطيني الجديد ولا حاجة لمندوبيها قي المجلس الوطني.

· القسم الثاني من النخب السياسية يتعامل مع مؤسسات المجتمع المدني بالند والاحترام. علاقتهم بالمجتمع المدني ومؤسساته علاقة عصرية مبنية على الحداثة والقناعة بالتكامل بين الطرفين لا بالتنازع. فهمت هذه الفئة من النخبة السياسية الدياليكتك الصحيح المبني على ان الحيّز الذي تحتله مؤسسات المجتمع المدني بالعمل الميداني يعود إجمالاً بالخير على الحالة الوطنية والعطاء السياسي للجميع . هذه الفئة هي التي انقذت الحالة الوطنية الفلسطينية في أوروبا من الانهيار ببناءها لاتحادات الجالية بعد ان تم الإجهاض على الاتحادات الشعبية من قبل الفئة الاولى.

· الفئة الثالثة من النخبة السياسية تتخفى من ناحية وراء مؤسسات المجتمع المدني لتغطي على عملها السياسي ومن ناحية اخرى تقوم وبتسارع ملحوظ ببناء مؤسسات مجتمع مدني موازية لتلك التي بنتها النخب السياسية الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير وهذا ليس بمحض الصدفة بل لانها تعمل ضمن برنامج مدروس لتقديم نفسها بديل عن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. الغريب بالأمر ان النخبة السياسية الوطنية الفلسطينية تتعاطى مع هذه الفئة بهدوء وتغض النظر عمداً عن عملها الانشقاقي.

· الفئة الرابعة ورغم انها كانت من المبادرين الى تأسيس الجاليات الفلسطينية في المدن الأوروبية بعد الإجهاض على الاتحادات الجماهيرية الفلسطينية من قبل الفئة الاولى كما اسهبنا الا انها بدأت بالتراجع عن موقفها المتقدم منذ سنين وأصبحت الان من اصحاب “اللاموقف” ومن تارة لأخرى تغامز هذه المجموعة الفئات الثلاثة الاخرى من النخب السياسية مما جعلها على هامش العمل الجماهيري.

الأحداث الاخيرة على الساحة الأوروبية وتحديداً في المانيا تؤكد صحة ما قرأناها عن واقع العلاقة المتأزمة بين النخبة السياسية الفلسطينية ومؤسسات المجمتع المدني الفلسطيني. منذ انهيار ما سمي زوراً “محادثات السلام” بشهادة من ضرب بسيفها وتشبث بها الا ان تمزق الجسم الفلسطيني سياسياً وجغرافياً واجتماعياً.

بدايةً عادت الفئة الاولى من النخبة السياسية الفلسطينية الى محاولات بث الروح من جديد في الاتحادات الشعبية علماً منها ان الطريق المسدود للسلطة الفلسطينية له مخرج واحد ووحيد وهو اعادة الحياة لمنظمة التحرير واخراجها من القبو الذي دفنت به منذ سنة ١٩٩٣. وقناعة منهم ان هذه العودة لن تكتمل الا بانعقاد للمجلس الوطني وبما ان المجلس يتضمن أيضاً اعضاء عن الاتحادات الجماهرية كونها كانت ممثلة المجتمع المدني الوحيد قبل بناء مؤسسات الجاليات ومؤسسات حق العودة ومؤسسات المحافظة على الهوية الوطنية ومؤسسات التضامن مع شعبنا الابي في فلسطين المحتلة، كان لا بد من اعادة إحياءها لالقاء عباءة الشرعية على ممثلي هذه الاتحادات الميتة في المجلس الوطني الفلسطيني. هذه الخطوة أتت بعد محاولات دؤوبة في العقدين الماضيين للإجهاض على مؤسسات الجالية الفلسطينية بمحاربتها او بمحاولات فاشلة لبناء اطر جالوية موازية تابعة للفئة الاولى من النخبة السياسية. تجاوب الفئتين الثانية والرابعة مع هذه محاولة اعادة بث الروح بجثث الاتحادات الجماهيرية هو برهان قاطع على عمق الشرخ القائم بين عموم النخبة السياسية الفلسطينية وعموم مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في الشتات. الخطوة الصحيحة كانت يجب ان تكون ببناء مؤسسات مختصة للمهندسين والأطباء والمرأه والطلاب الخ من داخل مؤسسة الجالية لتقويتها ولتقويم الخطأ الذي حصل عندما اخطأت بعض هذه النخب بقراءة الواقع الجديد لفلسطيني الشتات. احياء مؤسسات هلامية كالاتحادات الجماهيرية ببنيتها البالية هو عودة الى الوراء وبرهان اخر على الأزمة التطورية الحقيقية التي لحقت بالعمل السياسي الفلسطيني منذ التوقيع على اتفاقيات اوسلو الاستسلامية. نتائج الانتخاب المفبركة لهذه الاتحادات والإقبال المتدني لابناء الجالية في الانخراط في صفوفها هو برهان اخر على بعد مساري الحركة الوطنية السياسي والاجتماعي عن بعضهم البعض.

الواقعة الثانية التي تظهر مدى فقدان بعض الفئات السياسية الفلسطينية في الشتات لبوصلة عملها كان بمقاطعة الفئة الاولى والثالثة والرابعة للفعالية الوطنية الكبرى في برلين قبل أسبوع والتي اطلق عليها اسم ” مؤتمر الشتات الفلسطيني الاول”. في مقال سابق كنت قد صٓلٓتُ الضوء على هذه المقاطعة ومفارقاتها ولن اعيد سرده الان، لكن النجاح الكبير للمؤتمر رغم محاولات التخريب والشتم الفاشلة التي قام به البعض وبواسائل دخيلة على العمل الوطني كانتحال اسماء وأرقام هواتف مستعارة لارسال رسائل بذيئة للجميع لدق اسفين النزاع بين القائمين على الفعالية ومحاولة البعض من المشاركين بالفعالية باقصاء اسم منظمة التحرير من ألبيان الختامي للفعالية رداً على محاولات التخريب والمقاطعة من قبل بعض فصائل المنظمة والتي تم التصدي لها بنجاح من قبل من شارك وحرص على وحدانية التمثيل لمنظمة التحرير لعموم الشعب الفلسطيني تأكد المأزق الذي تعيشه الحالة الفلسطينية.

لقد حان الوقت للجلوس على الطاولة المستديرة لتداعي التسلط والعبث بالقضية الفلسطينية وبالعمل الوطني الفلسطيني في الشتات. العمل الوطني ليس حكراً على فئة او على جهة معينة. وحدة الصف على الثوابت الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير هو صمام الأمان الوحيد للكل الفلسطيني. قوتنا بوحدتنا الوطنية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والعمل المشترك بين مؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية وضعفنا وضعف عطائنا لدعم انتفاضة شعبنا الباسل له رافعة واحدة وحيدة … وحدة الصف والضرب بسيف الشعب الصامد وانتفاضته الباسله.

مقالات ذات صلة