المقالات

ملاحظات حول أهمية اللغة في تحديد الهوية الثقافية والحضارية

بقلم: الدكتور نزار محمود

منذ عصر النهضة الأوروبية وقيام الدولة القومية ما انفك الحديث عن اللغة باعتبارها واحداً من أهم عناصر تكوين الأمة. فاللغة، هكذا عرفوها، بأنها الوعاء الثقافي الذي يضم خصوصيات تلك الأمة، فكراً وقيماً وإبداعاً ومشاعر وسلوك.

وقد لا يكشف ذلك التعريف العام بوضوح عن دور وأهمية عنصر اللغة في ذلك التكوين للأمة. أحاول في هذا المقال حوار ذلك.

يتكلم اليوم ربع الكرة الأرضية، أو لنقل يستطيعوا أن يتكلموا، اللغة الإنجليزية. لكن السؤال هو: هل هم إنجليز ينتمون إلى الشعب أو الأمة الإنجليزية؟ هل الأمريكان هم إنجليز؟ وهكذا الاستراليون وكثير من الهنود وغيرهم؟ الجواب، بالتأكيد: لا.

فاللغة هي معين ووعاء في آن واحد، للأفكار والمشاعر والأحاسيس وصيغ التعبير عنها وشكل منطقها وخيالها. هي إثراء وتثاري لمن ينطقها وينتمي إليها. فهي لا تعرف عرقية ولا ديناً ولا مذهباً ولا طائفة. وهي كساحة لعبة كرة القدم، تفسح المجال لفنون لاعبيها وابداعاتهم.

وهي كالكائن الحي في نموها وتطورها، فعقلها السليم لا يكبر إلا في جسمها السليم المعافى.

فلغتنا العربية التي ضمت ما يزيد عن ١٢ مليون مفردة لغوية إنما تعبر عن خصوبة تلك اللغة فكراً ومشاعر وأحاسيس ووجدان وخيال سابح في سموات الله السبع. هذه المفردات “اختراعات” راكمها العصر الذهني لمن انتمى لهذه اللغة وأبدع فيها. فكم هي جميلة شاعرية موسيقاها وأنت تستمع إلى من يجيد التحدث والتغني بها.

وللتدليل على عظمة هذه اللغة أذكر أن عدد مفردات اللغة الثانية التي تلي اللغة العربية لا يزيد عن ٦٠٠ ألف مفردة!

كنت قبل ثلاثين عاماً قد تعرفت في جامعة الهمبولدت الألمانية، التي تخرجت منها، على بروفسور ألماني من أصول هنغارية، كان مهتماً إلى جانب اختصاصه في علوم الاقتصاد، بالأصل العربي لكثير من الكلمات التي دخلت اللغات الأوروبية. كان صديقي هذا معجباً بثراء اللغة العربية ومتانة بنائها النحوي. لكن الأهم من ذلك كان، هو أن الوقوف العربي على أصل هذه المفردات، والتي تحور لفظها ونطقها حسب لسانيات الشعوب التي انتقلت عبرها، إنما يعبر عن مدى التطور الحضاري حينما ظهرت الحاجة لاختراع مفردات لاشباع حاجات الوصف والتعبير عن معاني أشياء وأحداث ومشاعر في مجالات العلوم الحياتية المختلفة.

كان صاحبي ينظر إلي، إلى ذلك العربي، بكثير من الإعجاب، الأمر الذي كان يغمرني بكثير من الفخر وسعادة.

لم تكن لغتنا العربية لغة عنصرية، فقد أحبها المفكرون والعلماء والشعراء من أجناس شتى، وأبدعوا بها وفيها.

ولم تكن لتكون اللغة العربية لغة القرآن لولا سماوية خصائصها، حينما أمر أهلها بالمعروف ونهو عن المنكر.

برلين، ٢٣/٥/٢٠٢٠

مقالات ذات صلة