المقالات

هرتسيليا 2017 يؤسس لاستراتيجية إسرائيلية جديدة

Jun 29, 2017

المتتبع المهتم بمؤتمرات هرتسيليا الاستراتيجية، منذ المؤتمر الأول عام 2000 حتى الأخير 2017 يدرك بلا أدنى شك، طبيعة المتغيرات الديناميكية الاستراتيجية، فيما يتعلق بالتحديات المحدقة بإسرائيل سنويا، ومدى ما تشكله من أخطار حقيقية على وجودها ذاته.

دكتور فايز رشيد
دكتور فايز رشيد

المؤتمر هو مركز تخطيط استراتيجي – أكاديمي، يعقد سنوياً بتنظيم من مركز هرتسيليا للدراسات متعددة المجالات، بالتعاون مع العديد من مراكز البحوث والدراسات الإسرائيلية والدولية، وهو يبحث في القضايا الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية، التي تخص دولة الكيان الصهيوني، فالشعارالدائم للمؤتمرات هو «زيادة ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي»، وبقي هذا الشعار دائماً لكل المؤتمرات التي عقدت بعد ذلك. المؤتمر اسما ومكان انعقاد يحمل جزءا من استراتيجية اسرائيلية قديمة جديدة، فالمدينة التي يعقد على أرضها المؤتمر، أقيمت على أراضي قريتي اجليل والحرم (سيدنا علي) الفلسطينيتين أصلا وتاريخا، ثم جرى إطلاق اسم هرتسيليا عليهما، تيمناً باسم تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية. بالتأكيد، فإنهما (المكان والاسم) يحملان دلالات عميقة أكّدت الثوابت السياسية التي اعتمدتها إسرائيل عند إنشاء دولتها.

من تلك الثوابت إباحة استعمال كافة الوسائل في سبيل الأمن الإسرائيلي، المضيّ قدما في إزالة ومسح كل ما يتعلق بالتاريخ الفلسطيني، ومحو هوية المكان، الالتزام التام بالأسس والقوانين التي تطرق إليها ثيودور هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» الذي أسست عليه الصهيونية مبادئها، حين جرى إنشاء تمثيلها السياسي والعملي، وكلها متعلقة بمحاولة تأكيد الحق التاريخي لليهود في فلسطين، مقابل الاستمرار في مسح كل ما يتعلق بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. الاعتماد على قوة الذات في مجابهة الوضع المعادي المحيط، والتخطيط لإضعاف قوته العسكرية في مجابهة إسرائيل، والتخطيط استراتيجيا لخلق تحالف مع دوله. تطبيق أسس الاستراتيجيية الأمنية – العسكرية الإسرائيلية، الحرب الخاطفة، نقل المعركة إلى أرض العدو، عدم السماح بامتلاك الدول العربية لأسلحة قد تهدد بها إسرائيل مستقبلا. احتلال الجزء المتبقي من فلسطين، خلق واقع ديموغرافي يؤسس للدولة اليهودية، على قاعدة «أرض أكثر وعرب أقلّ»، ضرورة تهويد الأرض الفلسطينية، العمل على خلق صراعات أيّا كانت أشكالها (طائفية، مذهبية، إثنية) تشكل بؤرة لحروب بينية عربية على صعيد المجتمع الواحد في الدولة الواحدة، ثم في العلاقة بين الدول.

الأهم في كل ما سبق، هو إيصال الفلسطينيين والعرب إلى حالة من اليأس، عنوانها، الإدراك التام لاستحالة مجابهتهم لإسرائيل، ومن ثم القيام بخطوات فعلية لتصفية القضية الفلسطينية، والقبول الفلسطيني – العربي لها. كل هذه المبادئ رسمنتها إسرائيل في «قوانين أساس» سنّتها الكنيست (عوضا عن الدستور غير الموجود للدولة حتى اللحظة، وكذلك عدم ترسيم حدودها، فالمشروع ما زال قابلا للتوسع الجغرافي) واستمدتها من مؤتمرات الحركة الصهيونية، ومن تعاليم هرتزل، جابوتنسكي وبن غوريون (اقرأ أدبياتهم وتصريحاتهم واستراتيجيتهم في التخطيط لنوعية الدولة التي طمحوا إليها، والمسار الذي انتهجته منذ إنشائها حتى اللحظة). مؤتمرات هرتسيليا جاءت لتؤكد كل تلك المبادئ والأسس الاستراتيجية، قبل عقود طويلة من إنشاء الدولة.

وباستعراض مكثف لما طرحته مؤتمرات هرتسيليا السابقة، تتضح أهمية هذه المؤتمرات للكيان الصهيوني، في التخطيط لاستراتيجيته وتكتيكاته السياسية. في المؤتمر الثاني عام 2002، جرى طرح التخطيط لإقامة دولة فلسطينية في غزة وجزء من سيناء. في الدورة الثالثة عام 2003، طرحت مقايضة جزء من الأراضي الزراعية في منطقة الأغوار الأردنية، ومن شمال سيناء المصرية، لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها، مقابل نقل أجزاء من النقب الغربي، إلى قطاع غزة، و100 كيلومتر مربع، من جنوب البحر الميت إلى الأردن. وعام 2004 تم التأكيد على إنشاء الدولة الفلسطينية في سيناء. وأكّد المؤتمر الخامس على تحديد جدول الأعمال الإستراتيجي لإسرائيل. المؤتمر الثامن عام 2008 عقد في مدينة القدس المحتلة، وفي مبنى الكنيست الإسرائيلي، وحمل إلى جانب عنوانه العام، عنواناً جانبياً آخر، كان على صيغة تساؤل، وهو «في عامها الستين، هل مناعة إسرائيل أبدية؟»، واقترحت ورقة بحثية حول إبقاء الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية مقابل نقل الفلسطينيين إلى سيناء، ومقابل منح مصر جزءًا من صحراء النقب، فيما يتم الإعلان عن منطقة أخرى بالنقب كمنطقة حرة يسمح العبور من خلالها بين مصر والأردن، جاء ذلك تحت عنوان «الخطر الديموغرافي الفلسطيني على التركيبة السكانية الإسرائيلية».

اعتبر المؤتمر الـ11 أن تخفيف اعتماد العالم على النفط العربي وهبوط أسعاره إلى الحضيض، يعتبر هدفًا إستراتيجيًا إسرائيليا. في المؤتمرعام 2012، كان أحد عناوين المؤتمر تقدير إسرائيل لحدوث هزة سياسية في مصر. وقد خلص المؤتمرعام 2015 إلى قائمة من التوصيات التي هدفت إلى تحسين قدرة إسرائيل على مواجهة المخاطر الناجمة عن التحولات التي طرأت على بيئتها الإقليمية، وتمكينها أيضا من استغلال الفرص التي أفضت إليها هذه التحولات. موتمر عام 2016 جرى بمشاركة عربية، وجرى التأكيد فيه (كما على مدار أعوام) على تسخير منصته لإطلاق ودفع مشروع «سيناء كوطن بديل للفلسطينيين». كما تكوين هوية إسرائيلية عالمية مشتركة، ودمج العناصر الأربعة في «المجتمع»، العلمانيين، اليهودية الحديثة، اليهودية المتشددة والعرب، بحيث تتكون شراكة مجتمعية، قائمة على بناء الهوية الإسرائيلية، لدعم مفهوم الوطن القومي، كما تأكيد التحالف مع الدول العربية المعتدلة لمكافحة الإرهاب.

بالنسبة للمؤتمر هذه السنة 2017 (قبل أسبوع) فقد ركّز على السعي لتحسين علاقات إسرائيل مع الدول العربية السنية، وإقامة ائتلاف معها بالاستناد إلى المصالح المشتركة. دعوة الملك السعودي لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. إن التهديد المحتمل على إسرائيل، يشكله حزب الله. تثمين جهود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في قمع جماعة الإخوان المسلمين. في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية جرى التأكيد على، أن من مصلحة إسرائيل المحافظة على الأوضاع كما هي، حيث تتسم راهنا بالهدوء، ذلك بدلا من اللجوء إلى التسوية الدائمة. تعزيز العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والضفة الغربية. اتهام الرئيس عباس بمحاولة إشعال صراع جديد بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، كما أن خليفته قد يمثل خطرا حقيقيا على إسرائيل. لقد أشاد المؤتمر بالتنسيق العسكري والاستراتيجي القائم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ما مكّن إسرائيل من الحفاظ على نفوذها العسكري بكل نجاعة في الضفة الغربية، انتقاد الإدارة الأمريكية السابقة بشدة، حيث عجزت عن القيام بدورها بفاعلية باعتبارها «شرطيا دوليا» في الشرق الأوسط، وأن الولايات المتحدة كانت في عهد أوباما ترغب في القطع تماما مع كل ما يربطها في المنطقة، لذلك، استغلت ثلاث قوى متطرفة هذا الفراغ، وهي إيران وتنظيم الدولة والإخوان المسلمون بقيادة أردوغان. انتقاد توقيع أمريكا على الاتفاق النووي الإيراني.

إن الحضور العربي والفلسطيني في المؤتمر كان خطأً كبيراً ولا يمكن فهمه! أما المتغيرات الاسرائيلية الجديدة، فهي: الاتفاق مع العالم العربي أولا قبل الذهاب لتسوية القضية الفلسطينية. اسرائيل من خلال دعوتها إلى التحالف مع بعض الدول العربية، فإنها تسعى لعمق استراتيجي عربي لوجودها، وهذا يحمل في مضمونه تداعيات كبيرة، قد نفصّلها في مقالة مقبلة.. النظرة الإسرائيلية إلى الدور المصري، من قدرة التأثير على الدول العربية الأخرى، إلى مستوى الدولة الصغيرة في الصراع القائم في المنطقة. بهذه المعاني يمكن القول، إن المؤتمراقترح تغييرا استراتيجيا مهما في أسس السياسات الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة